د.عبدالله مناع
ربما كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي.. أو ما حولها.. عندما جمعتني المصادقة -وحدها- لأستمع إلى حوار إذاعي -بعد منتصف الليل- من إذاعة (صوت العرب).. عندما كانت الإذاعات آنذاك هي (سيدة) الإعلام وربته، وقد كان الحوار مع (فنان عربي) -لم أتعرف على صوته الذي كنت أسمعه لأول مرة-.. بمناسبة انعقاد (مهرجان الأغنية العربية) بالقاهرة، الذي كانت وما تزال ترعاه وتدعو له (دار الأوبرا المصرية)، وتستضيف من أجله أعداداً كبيرة من الموسيقيين والمغنين العرب.. بل وتجري منافسات بينهم أمام لجان تحكيم موسيقية عربية.
لقد أعجبني ذلك الحوار الذي كنت أستمع إليه آنذاك من طرفيه: (المذيع المصري).. و(ضيفه) الفنان العربي الذي لم أكن أعرف من هو؟.. أو من أي قطر عربي هو؟.. إلى أن انتهى الحوار والبرنامج.. ليقدم (المذيع) شكره للفنان العربي الأستاذ (سراج عمر) من (المملكة العربية السعودية).. لأتمتم في داخلي: إذن نحن بخير..!! ما دام لدينا فنانون من هذا الطراز الراقي والجميل.
وفعلاً كنا بخير آنذاك.. فقد ازدهرت الأغنية المحلية أو السعودية: العاطفية منها والوطنية.. طوال السبعينيات.. بل وسافرت إلى عواصم الفن والغناء في كل من القاهرة وبيروت وتونس.. ومنها إلى العواصم الأوروبية الأشهر كـ(باريس) و(لندن).. بل ومنها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وعاصمة السحر والجمال فيها (مدينة لوس أنجلوس).. و(كندا) ومدينتها الفاتنة الساهرة (فان كوفر).
لقد كانت سنوات السبعينيات.. خيراً وبركة على الفن عموماً.. والأغنية (المحلية) خصوصاً وعلى المستويين: (الشخصي) و(الأهلي) الاجتماعي فقد شهدت تلك السنوات ربيعاً حقيقياً للأغنية المحلية.. برزت خلالها أعمال فناننا الكبير الأستاذ (سراج عمر).. تباعاً كـ (مقادير) و(أغراب) و(زمان الصمت) و(عطني الحبة) و(الموعد الثاني) و(آنستنا يا حبييبي آنستنا).. إلى جانب أجمل أعماله الغنائية الوطنية: (بلادي بلادي منار الهدى).. التي كتبها الشاعر الأستاذ سعيد فياض، وغناها بصوته -دون ألحانه جميعاً- الأستاذ (سراج عمر) نفسه.. تقديراً لـ(الوطن) ومحبة له.. كما شهدت تلك السنوات (رسوخ) جمعية الثقافة والفنون، وسطوع نجمها.. بعد أن قام بتأسيسها أدبياً وشعرياً ومادياً الأميران الشاعران الغنائيان: محمد العبدالله الفيصل.. وبدر بن عبدالمحسن و(فنياً) -موسيقياً وغنائياً- الفنانان الراحلان: طلال مداح وسراج عمر.. إلا أن (الجمعية) احتوت واستوعبت الفنانين جمعياً الذين ظهروا في تلك المرحلة من أمثال الفنانين الكبار: عمر كدرس وعبدالله محمد ومحمود جميل وسامي إحسان وعلى باعشن.. فقد كانت سنوات السبيعنيات هي سنوات الانفتاح الفني والموسيقى والغنائي الأولى، إذ يكفي أن نذكر أن أجواء تلك السنوات.. هي التي مكنت وزير إعلامنا الشجاع الشيخ جميل الجحيلان.. من بث وإذاعة روائع أم كلثوم.. الأربع التي شدت بها في (تونس) عام 1968م وهي: (أنت عمري) و(الأطلال) و(فكروني) و(بعيد عنك حياتي عذاب).. دون أن تجد معارضة لا من (الديوان) ولا من المشايخ.. ليقدم دخلها لـ(المجهود الحربي) العربي.
لكن سنوات السبعينيات المزدهرة فنياً.. تم اغتيالها مع بداية الثمانينيات على يد (جهيمان) وعصابته، التي ادعت أنها جاءت لـ(تصحيح) الإسلام، وأخذ البيعة من جموع المسلمين في الحرم المكي.. لمن أسمته بـ(المهدي المنتظر) بين (الركن) و(المقام) ليملأ الأرض (عدلاً) بعد أن ملئت جوراً وظلماً!! إلى آخر ما جاء في تلك (الهلوسات) التي ما أنزل الله بها من سلطان.. إلا أن (الدولة) استطاعت بفضل قوتها وتماسكها ومحبة الشعب العربي السعودي لقيادتها المتمثلة آنذاك في شخص الملك خالد بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير فهد بن عبدالعزيز.. ان تسحق تلك الفتنة، وأن تعيد الأمور إلى نصابها.. لكن (الفن) والفنانيين تأثروا سلباً، فقد توقفت الحفلات الموسيقية الغنائية التي كانت تقام في الداخل والخارج، وتراجع الإقبال على طلب الفنانين مع تراجع الأغنية، ولم يكن حال (جمعية الثقافية والفنون) بأفضل من ذلك، فقد انكمشت (الجمعية) في الداخل.. وتراجع وجودها في الخارج، فلم تعد هناك تلك التعاقدات الصيفية المجزية، التي كانت تتمتع بها.. والتي عاشها وعاش خيراتها الفنانون من المغنيين والملحنين والعازفين -في سنوات السبعينات- بل وتوقف بث الأغاني تلفزيونياً واذاعياً.. ومعها المسلسلات الدرامية.. وهو ما جعل وزير الإعلام آنذاك الدكتور محمد عبده يماني.. يطالب -وزارة المالية- بـ(مضاعقة) المكافات الإذاعية والتلفزيونية للعاملين -من المتفرغين وغير المتفرغين، للإذاعة والتلفزيون- إلا أن تلك الزيادة لم تفعل شيئاً مع التقدم نحو التسعينيات وما بعدها.. لأن الوزراء الذين تعاقبوا على الوزارة بعد الدكتور اليماني، لم يولوا جانب المكافآت الإذاعية والتلفزيونية أي قدر من اهتمامهم.. وظنوا أن تلك الزيادة التي سعى إليها وحققها الدكتور محمد عبده يماني كافية إلى يوم يبعثون!! بينما انكشف حال تلك الزيادة سريعاً.. وأصبحت مخجلة إن لم تكن مضحكة!! فهي ربما تنفع في بلد كـ(الصومال) أو (بانجلاديش).. ولكنها حتماً لم تعد تنفع في بلد كـ(بلدنا)، فهي لا تغني ولا تسمن.. بل ولا تقيم الأود!! فكان من حسن حظي أنني لم أر (سراج عمر) طوال الثمانينيات والتسعينيات وما بعدها.. فلم أره إلا قبل ثلاث أو أربع سنوات فلم يسرني حاله.. وإن تكتمت على ما كان يعتمل في نفسي لأودعه على أمل بـ(لقاء) لم يتم.. فقد مات يوم الجمعة الماضية، ولحق بصاحبه الأستاذ الشاعر (إبراهيم خفاجي).. الذي تشارك معلأستاذ سراج عمر.. في توزيع لحن (السلام الملكي) الذي كتبه الموسيقار المصري المهاجر إلى إستراليا: عبدالرحمن الخطيب.. على الكلمات التي كتبها الاستاذ الخفاجي ليظهر (السلام الوطني) على الصورة التي نعرفها.
ومع تعاقب السنين.. وتزايد التزاماته بعد الوعكة الصحية الخطيرة التي تعرض لها، واستمرار تراجع (الأغنية).. وانصراف (المغنين) إلى الاعتماد على إمكاناتهم وقدراتهم اللحنية.. مهما تواضعت، إلى جانب.. استمرار تجاهل وإهمال الجهات الرسمية المسؤولة عن (الفن) بصفة عامة و(الأغنية) بصفة خاصة.. كل ذلك حملة على أن يأخذ عام 1430هـ - 2009م قراراً دامعاً يائساً قانطاً.. لا أدري من أين جاءته فكرته؟! وهي: إحراق مكتبته السمعية والبصرية بمدوناتها اللحنية، وإلقائها في مرمى نفايات أمانة مدينة جدة، ليعلن اعتزاله لـ(الفن) ولـ(التلحين).. لتفقد (الأغنية) ملحناً عبقرياً فذاً.. قل أن يتكرر.
لقد كان قرار (حرق المكتبة) حاداً عنيفاً.. كان أكبر من أن يُحتوى آنذاك.. ولذلك ذهب في حينه وكأنه صيحة في وادي! ولكن اليوم.. ومع تباشير العهد الذهبي الجديد للفن عموماً وللأغنية خصوصاً، الذي أعلنته (هيئة الترفيه)، وقدمت نفسها من خلاله لـ(الوطن) أجمل تقديم.. فإن عليها بداية أن تزيل (قائمة المكافآت) المحنطة التي أكل الدهر عليها وشرب، وأن تستبدلها بـ(قائمة إنسانية) حقاً.. وكما يفعل الآخرون، لأقول لابنه (محمد) في ثالث أيام عزائه بـ(حي الرويس): أن من حقك أن تفخر بـ(ابيك).. فقد كان موسيقاراً عظيماً.. احتل الصدارة دون منازع في أيامه، وأن عليك أن (تحافظ) على ما نجا من الأشرطة والتسجيلات.. لأنها ستصبح في يوم قريب هي (الماستر كوبي) لأعمال والدك.. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.