د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
عندما يكون الارتحال لمحافظة الغاط من التوق والشوق للثقافة، وعندما يكون تأطيراً حافزاً في صياغة التنمية، وعندما يكون دعماً للمعرفة وتحقيقاً لممكنات النهوض فحتماً سيكون الارتحال مختلفاً في أصوله وشكوله. فهناك في الغاط حكايات للكرم الأصيل، وتلويحة زمانية تخترق القلوب؛ وشواهد مكانية تحمل دلالات التنوير؛ وهناك أحلام عربية بيضاء تكوّنت في دار الرحمانية ومكتبتها ذات الصفوف الملوَّنة من أوعية المعرفة لا يستغلق على زائرها التقاط متغيراتها وتجدّدها الدؤوب.
أما البدايات فقد ومضتْ هناك في الجوف لتدفعنا للاستفاضة في شرح تفاصيل المشروع الثقافي الذي امتد من الجوف في تأسيس صادق لتغذية العقول بالمعرفة ليستقبل مجتمع الجوف منذ قرابة نيف وسبعين عاماً مكتبة «دار العلوم» «1383» التي أسسها الأمير عبدالرحمن بن أحمد السديري -رحمه الله- إبان إمارته هُناك، وأصبحت منارة ثقافية تحمل وجيب مجتمعها ووطنها الكبير؛ وتعمّق من الجوف العطاء الإنساني لمؤسس المركز الثقافي الموسوم باسمه - رحمه الله- فتراسلت المثاقفة مع الغاط، حيث عزم (رحمه الله) أن يترك مساحة لتاريخ الثقافة في مرتبع الغاط الجميل، فنهضت ثقافة الغاط فاقتربتْ الرؤى واستدارت الزوايا؛ فكانت مكتبة منيرة الملحم - رحمها الله- وكان المنتدى السنوي الأبرز في دعم المرأة.. فالمكتبتان في سكاكا والغاط تشكلان مركزاً ثقافياً بفرعين يرعى المناشط الثقافية، ويقدم التمويل للبحوث، وينشر الدراسات والكتب ويصدر دوريتين تعنيان بالآثار والثقافة والأدب.. كما ترعى المؤسسة جائزة الأمير عبدالرحمن بن أحمد السديري للتفوق العلمي في كل من الجوف والغاط؛ وهناك خطة ممتدة لابتعاث المتفوقات للدراسات التخصصية العليا تمخضت عن عدد محفز منذ عام 1425هـ.
أما المنتدى السنوي المكتنز «منتدى منيرة الملحم لخدمة المجتمع» فهو منصة إشراق مجتمعية، ومجيء مدهش توشحه اسمها (رحمها الله) ليصبح جزءاً من الثقافة الوطنية وأتمت عائلتها رسم لوحاته النامية، فعبر ذلك المنتدى المجتمعي مدارجه العشر حتى هذا العام 1439 ومازال يستضيف نخبة من عقول بلادنا النسائية لتتصدر طروحاته وتفيض بما يعزِّز معلومات المشهد.
ولكل دورة تخطيط محكم وعناية بالتفاصيل لتحقيق الأهداف المتوخاة؛ ودائماً ما يحصد المنتدى نجاحات تذكر وتشكر تأسيساً على جدارة الانتقاء للموضوعات التي تمس وجيب المجتمع؛ وَمِما طرح في المنتديات السابقة «أساليب كسب الأبناء وتوجيه سلوكهم،» ذوو الاحتياجات الخاصة بين التحدي والحقوق، «العنف الأسري»، دور الأسرة في انحراف الأبناء؛ والصحة النفسية ضمن الحياة الأسرية»، وموضوعات أخرى في الشأن الصحي العام، وهذا العام كانت دورة المنتدى في موضوع حيويّ يتصدر تظاهرتنا الوطنية الجديدة وهو (ريادة الأعمال النسائية: الواقع والتطلعات المستقبلية « فكان الموضوع حفيا فالكل جاء ليبحث عن مضان ريادة الأعمال وطريقة إعدادها والشروع فيها، واستمعنا هُنَاك لنخبة مختارة باقتدار لمثاقفة الحاضرات حول كيفية الصعود وصناعة النجاح، فكان طرح أكاديمي معرفي من خلال نخبة من أستاذات جامعة الملك سعود، حيث كان المنتدى بالتعاون مع مركز بحوث الدراسات الإنسانية في الجامعة؛ وطرح تنظيمي محفز من متخصصات من القطاعات المعنية في بلادنا؛ وورش عمل مصاحبة كانت إضاءات لتحفيز الاستعداد لريادة الأعمال.
نعم هُنَاك في الغاط شعور جميل بالمغامرة المحمودة لفتح بوابات الثقافة وخدمة المجتمع على مصراعيها لتمتد من الغاط الجميلة إلى كل أرجاء بلادنا فهنيئاً للغاط حراكها الثقافي المثمر وهنيئاً لها ازدهارها المجتمعي المشهود الذي صنعته تلك العقول العظيمة -رحمهم الله وحفظ امتدادهم- ليكملوا المسيرة التنموية الثقافية.
ويستحق المركز وما ينتج عنه من حراك ثقافي تنموي مجتمعي تصدّر مصادر التنوير الثقافي تأسيساً في بلادنا ومنح المرأة أول نوافذ الثقافة في مشروع ثقافي كبير، وتبنى مفهوم الشراكة المجتمعية قبل صياغاتها الحديثة؛ يستحق المركز تكريماً وطنياً في أرفع مستوياته.
«ذاك ربع شاقتْ مغانيه نفسي
تتهادى فيه المزون تسيلُ
ليت شعري في الغاط فكر غزيز
والثقافة تنثال منها الحقولُ»