حمّاد السالمي
* لو قلت في جمع من الناس- العرب طبعًا- بأن رئيس دولة أو وزيرًا؛ أو حتى مسئولًا قياديًا في جهة ما؛ استقال من منصبه، لمجرد أنه تأخر عن موعده المحدد في محفل عام مدة (خمس دقائق)؛ كيف تتصور ردة الفعل التي سوف تواجه بها..؟
* بداية.. لن يصدقك أحد، بل سوف يضحك ويسخر منك الكل، ثم إن قلت: بأن هذا حدث في بلاد أوروبية؛ قالوا لك: على الفور: مؤكد هذا مثلك مجنون..!
* نعم.. هذا في ثقافتنا.. مجنون. مجنون من يضحي بمركز كبير أو حتى صغير من أجل (خمس دقائق) لا تقدِّم ولا تؤخِّر..! ماذا في الأمر لو تأخّر هو؛ وتعطّل هذا الجمع من الناس؛ الذين كانوا ينتظرون طلّة جنابه الموقّر دقائق أو حتى ساعات وساعات..؟! وخصوصاً أن رؤساء دول وقيادات في عالمنا الثالث؛ لا يصلون إلى ما هم فيه، إلا على ظهور دبابات، أو دفع مليارات، أو تزوير في انتخابات، فهل هذه التضحيات الكبيرة تُساوى بدقائق وزمن..؟
* لكن هذا حدث في بريطانيا قبل عدة أيام. فقد تأخَّر الوزير البريطاني اللورد (مايكل بيتس) عن اجتماع في البرلمان خمس دقائق، وعند دخوله؛ اكتشف أن المجلس طرح قبل دخوله سؤالًا موجهًا إليه، فرد أحد زملائه نيابة عنه، فطلب الحديث وقال: (أشعر بالعار؛ لأني لم أكن موجودًا لأجيب عن السؤال، ولهذا أعلن استقالتي الفورية)، ثم غادر الجلسة.
* ومهما كانت تفسيرات هذه الحالة؛ إلا أنها تعبّر عن موقف شخصي وآخر مؤسساتي. الوزير يمثِّل أمة، ويعكس ثقافة شعب، والمؤسسة السياسية؛ تعكس تقاليدَ ونظمًا نابعة من الشعب الذي فوضها لإدارة شؤونه.
* لماذا نعتقد ونردد عادة أن الأوروبيين يحترمون الوقت والمواعيد؛ ونحن لا نعير الوقت أي اهتمام؟ لأنهم كذلك، ونحن كذلك. الأمر بكل بساطة؛ يرتبط بثقافة عامة، وكذلك بتقاليد وأنظمة مؤسساتية تربي وتعلِّم الناس هذه الثقافة. الأوروبيون يحترمون الوقت، ويعرفون أهميته كمؤسسات وكأفراد. من المؤكّد أن الشعوب التي تلتزم بالوقت؛ وتحترم مواعيدها؛ تنطلق في ذلك من تربية وثقافة عامة، ومن تقاليد مطبَّقة في دوائرها ومؤسساتها، ولو أنا في عالمنا الثالث؛ رسخنا ثقافة احترام الوقت، وطبَّقنا هذا في مؤسساتنا الحكومية والدينية والمجتمعية كافة؛ لما كنا نندهش من مسؤول بريطاني يضحي بوظيفته وهو وزير من أجل (خمس دقائق) تأخير..!
* كثيرة هي الأمثلة والشواهد التي تدلّل على حرص الغربيين واحترامهم للوقت والمواعيد خلافنا نحن. من ذلك: مواعيد رحلات الطيران والقطارات والحافلات. ومع أن ثقافتنا الإسلامية تدعو إلى احترام الأوقات والالتزام بها، في صلاتنا وحجنا وصومنا وزكاتنا وكافة شؤون حياتنا؛ إلا أننا نردد أقوالًا بدون أفعال. هذه الثقافة التي هي سمة دينية في إسلامنا؛ تعيها وتدركها عقول الفقهاء والعلماء والحكام والمسؤولين، ويعرفها الناس كافة بيننا، بل نحن أكثر شعوب الأرض معرفة بالوقت، وبوسائل الحساب الزمني، دقائق وساعات وأيام وأشهر وأعوام. كم ساعة وقت تحيط بالواحد منا ليلًا ونهارًا..؟ ساعة في يده، وأخرى في جواله، وثالثة في سيارته، ورابعة في مكتبه، وخامسة في مجلسه بالدار، وسادسة في بيت نعاسه.. إلى غير ذلك. ومع كل هذا؛ فنحن أكثر شعوب الأرض هدرًا للوقت، وخلفًا للمواعيد، وربما العهود. نردد قول نبينا صلوات الله وسلامه عليه الذي منه: (وإذا وعد أخلف)، ثم ما أكثر ما نخلف مواعيدنا في لقاءاتنا ومناسباتنا، ونعد هذا أمرًا عاديًا، خاصة إذا علا شأن المعني بهذا الخُلف، إذ سرعان ما نجد له المبررات..! بهذه المناسبة؛ أتذكّر أني قرأت في مقابلة منشورة لرجل أعمال سويسري وخبير في الساعات السويسرية؛ أنه عندما سُئل عن مبيعاتهم من تلك الساعات قال: (للأسف.. أكثر الشعوب شراءً لساعاتنا؛ أقلهم احترامًا للوقت).
* ومما يُحكى عن (تشستر باولز)- الذي عُيِّن سفيراً للولايات المتحدة لدى الهند- ذكر عن اجتماع سياسي عقد هناك بحضور البريطانيين من أجل بحث استقلال الهند، وقد بدأ الاجتماع متأخرًا عن موعده (45 دقيقة)، وعندئذٍ؛ نظر غاندي في ساعته عابسًا وقال: إن استقلال الهند سوف يتأخر أيضًا (45 دقيقة)..! ثقافة مستعمِر في شعب مستعمَر. وجاء في سيرة الأمير (برنارد) الهولندي؛ أنه كان يؤمن بالمثل الذي يقول: (إن الدقة في المواعيد؛ من أدب الملوك)، فكان إذا جاء في دعوة الغداء؛ وكان الموعد الثانية عشرة والنصف، فيمكن أن تعتمد تماماً على أن الأمير سوف يحضر في الساعة الثانية عشرة وتسع وعشرين دقيقة ونصف الدقيقة. وأتذكَّر كذلك؛ أن الملك (فيصل بن عبد العزيز) - رحمه الله- كان دقيقًا في وقته، وكان الناس وقتها يقولون وهو بالطائف: اضبطوا ساعاتكم على وصول الملك إلى مكتبه وخروجه منه. ومثله الملك سلمان منذ أن كان أميراً للرياض وحتى بعد أن أصبح ملكاً، هذا مثال رائع من عالمنا الثالث، ليته يتكرر كثيرًا ويتكرّس، وخاصة في الدوائر والمؤسسات؛ مع (رؤية المملكة 2030).
* نردد الكثير من النصوص الدينية والشعرية والأدبية؛ التي تحض على احترام الوقت والالتزام بالمواعيد: الوقت كالسيف، إن لم تقطعه قطعك. والوقت من ذهب، إن لم تدركه ذهب، ولكن.. قلة منا من يطبِّق هذه التعليمات الحضارية؛ والأدبيات المثالية..؟
* نقول لبعضنا في أحايين كثيرة: (وعد إنجليزي). هذا من باب التسلية أو التسرية عن النفس، أما إذا زارك أو (داهمك) أحدهم بدون موعد سابق، فما عليك إلا أن تنسى (وعد الإنجليز ووقتهم)، وتقوم بواجب الضيافة غصبًا.
* حدد (فولتير) أربع طرق تضيع الوقت قال: (الفراغ، والإهمال، وإساءة العمل، والعمل في غير وقته). وبعضنا يضيع وقته في سهر الاستراحات، وثرثرة التليفونات، والبحلقة في التلفزات، والتسكع في الطرقات، ومشاركة الآخرين في رسائل ومقاطع بدون سبب، وتعميم رسائل الصباح والمساء بلا مناسبة.
* ليتنا ننصت إلى دقات قلوبنا؛ لنعرف منها قيمة الوقت في حياتنا، كما أنبأنا بذلك أحمد شوقي:
دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثوان