د. حمزة السالم
ثقافتنا العربية لا يخلو جانبها التخاطبي الفكري أو الاعتيادي على مستوى النُّخب من المبالغة في المدح والإطراء كما لا تخلو من حدة القول. والمدح والإطراء ليس موضوع اليوم. وأما الشاهد على حدة الرد على المخالف، فلا أعظم من رد الصديق رضي الله عنه على عروة بن مسعود في الحديبية (قبل إسلامه رضي الله عنه). وقد توارثت العرب حدة اللفظ في خطابهم مع الآخرين ما يتراوح بين اتهام المخالف بأنه خنيث، ووصف الخطأ بالكذب، والاستهزاء بالاسم والنسب والأصل عند الرد، إلى أخف الأمور عندنا وهي اتهام عقل المخالف ووصفه بالجهل (وما هو والله بخفيف، إن كان كاذباً).
كما قد يلجأ المناظر أحياناً إلى حدة في العبارة أو سخرية في الخطاب من أجل إثارة الموضوع وحفظه في الأذهان. وهذا أسلوب مستخدم الآن في الدعايات العالمية. فقد ترى دعاية تلفزيونية لمنتج جديد كلياً وفيها منظر مقزّز لا علاقة له بموضوع الدعاية، وذلك من أجل إلصاق إدراك وجودية هذا المنتج في العقل الباطني للزبون المستهدف ومن ثم إرداف هذه الدعاية بعد ذلك بدعايات أخرى.
وقد تخرج من المناظر في مضايق المناظرات ومخانق الفكر ألفاظ نابية وعبارات حادة، لا تنفع قائلها ولا تمنحه حجة، فقوة الخلاف تظهر في تحدي العقول لا في حدة القول. وقد يكون المتحدث أو المناظر حاد الطبع خلقة فلا يخلو حديثه من حدة في القول ولو حاول التطبع بغير طبعه «ومهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ وإن خالها تُخفى على الناس تُعلمِ». وقد كان الصديق رضي الله عنه خليفة رسول الله حاداً في طبعه وكذلك كان ابن حزم.
وقد يكون المناظر مخلصاً أو ذكياً ويواجه مدلساً أو غبياً، فيخرجه ذلك عن طوره وتترجم معاناته على شكل حدة في القول والطرح، وقيل في ذلك «ذو العقل يشقى في النعيم بعقلِهِ وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم، ومن البليّة عذل من لا يرعوي عن جهلِهِ, وخطاب من لا يفهم». كما أن لصاحب الحق مقالاً، ولذا فليس كل مهادن بالقول حليم فقد يكون ذلك من ضعف حجته، كما قالوا «والذل يظهر في الذليل مودةً وأود منه لمن يود الأرقم» (الأرقم هو الثعبان).
فخلاصة القول أن حدة القول لها أصل في ثقافتنا العربية، وحدة القول فطرة تستفزها مناسبتها، وحدة القول أسلوب دعائي أحياناً، وحدة القول قد تكون دليلاً على إفلاس الحجة فتعوّض بحدة القول والفحش في الخصومة، تماماً كما يكون اللين في الخطاب واللحن بالقول من ضعف الحجة. ومرادي من هذه المقدمة هو تبيين أن استدعاء السلطة والقضاء في كل مناسبة يشذ أحدهم في قول هنا وهناك هو من تقييد للحريات وتعطيل للحوار. وذلك أن المتحدث ينشغل بتنميق الألفاظ وتجميل القول حتى ينشغل عن جوهر الطرح. وقد يُترك الطرح عالقاً خوفاً من الخطأ في القول، فيُستدعي المخالف السلطة والقضاء عليه. كما أن استدعاء السلطة والقضاء هو ضعف في الحجة والدليل والمنطق. فما عدا التعدي الظاهر الواضح على الدين أو العرض، فإن مناخ الحريات الفكرية الساعي للإصلاح والتجديد لا ينضبط ولا يعمل في مجتمع يستدعي بعض أفراده السلطة والقضاء على بعضه الآخر في كل مناسبة.
فقد يكون المناظر مخلصاً أو ذكياً ويواجه مدلساً أو غبياً، فيخرجه ذلك عن طوره وتترجم معاناته على شكل حدة في القول والطرح، «ذو العقل يشقى في النعيم بعقلِهِ وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم، ومن البليّة عذل من لا يرعوي عن جهلِهِ, وخطاب من لا يفهم».
كما أن لصاحب الحق مقالاً، ولذا فليس كل مهادن بالقول حليم فقد يكون ذلك من ضعف حجته، كما قالوا «والذل يظهر في الذليل مودةً وأود منه لمن يود الأرقم» (الأرقم هو الثعبان).