د. محمد عبدالله العوين
هل رأيتم له صورة في صحيفة؟ أم برنامجا في التلفزيون؟ أو استمعتم إليه متحدثا في إذاعة؟ هل قرأتم له تغريدة في تويتر أو تصويرا في سناب أو في غيرهما من وسائط التواصل الاجتماعي؟!
أكاد أجزم أنكم لم تتعرفوا على صورته ولم تسمعوا باسمه إلا بعد وفاته رحمه الله.
لقد كان زاهدا في الأضواء والحضور الإعلامي، على الرغم من أنه كان نبعا ثرا ونهرا متدفقا وكاتبا أنيقا رقيقا مرهفا ذواقا إن رغب أن يكتب.
إنه العالم الأديب الدكتور عبد العزيز بن محمد الزير.
ويكفي هذا التعريف لمن لم يسعد بلقائه ومعرفته؛ لكن من تعرف عليه زميلا له في كلية اللغة العربية أو طالبا تلقى العلم والأدب على يديه فإنه يعرفه المعرفة العميقة الحقة، أما ما دفعه إلى الزهد في وسائل الإعلام؛ فلأنه يرى أن ليس لديه ما يستحق أن يقدمه للناس، وكأنه لا يعرف دخيلة نفسه، أو أنه ينكر ذاته ويروضها أبدا على الجثو على الركب في مقاعد العلم والأدب؛ قارئا نهما، وباحثا شغوفا، ومناقشا لحوحا للوصول إلى المعرفة اليقين والرأي السليم والحكم النقدي الدقيق.
كأنه وهو يستصغر ذاته ويستقل ما لديه طالبا لا زال يحبو في مدارج العلم؛ مع أنه إن تحدث أغنى، وإن قال قطع، وإن كتب شفى، لقد كان شخصية قعد بها التواضع العلمي عن الخوض في غمار السباق على الترقيات التي يتطلع لها - أحيانا - من يجمع جمعا أو يرص رصا أو يقتبس اقتباسا بتحشيد ركيك لا ذائقة فيه ولا اكتشاف ولا جدة؛ بينما يزهد في هذا التفاخم الفج عند البعض مثل هذا الباحث الكبير صاحب الذائقة الأدبية الرفيعة والثقافة الموسوعية الشاملة التي تحار وأنت تستمع إليه كيف ملك كل هذا الوقت ليقرأ في كل فن وليطلع على كل تخصص وليعي ما قيل وما كتب إن شئت في اللغة أو النقد أو الأدب أو السير أو الفن أو التمثيل أو المسرح أو الموسيقى أو الصحافة أو الشعر، ويذهب ظنك - وهو ظن مخادع - أن هذا المتدفق بسلاسة وخفة وفصحى لا عوج فيها ولا أمتا قديم لا ينتمي إلى ثقافات العصر؛ لكنه يسرقك من حيث لا تعلم ويجعلك أنت الذي لا تكاد تعيش مقدار ما يتعايش معه من مدارك ومذاهب وآراء وتيارات.
شخصية موسوعية شاملة لا تكاد تتكرر إلا في حالات نادرة، فهو حازم في غير قسوة، لين في غير تفريط، بشوش ودود، لم يلقه طالب أو صاحب إلا وبسمته تعانق تحيته، ونعمه تسبق لاءه، وأهلا تفتتح، وأبشر تختتم.
إن قرأت له ما كتب فيرقمه بأجمل خط، وإن فتح لك مغاليق سيرته وجدته راصدا دقيقا بالكاميرا لإيقاع مراحل العمر؛ مناسبة ولقاء واحتفالا، فهو خزينة تاريخية مصورة لمرحلة علمية زاهية كان فيها الأول على الخريجين والمتقدم فيها دوما على المتنافسين.