د. إبراهيم بن محمد الشتوي
جاء السارد شيخاً كبيراً، حنكته التجارب، والأيام، وتراكمت خبراته من توالي السنين، حتى أمكنه ذلك من قراءة المستقبل، وتقويم الحاضر، وهذه القدرة الممتدة بين الأزمنة، والأجيال تشبه إلى حد كبير الزمن أو التاريخ الذي يقيد الأحداث، بل يمكن القول إنه التاريخ نفسه صوّره السارد بصورة شيخ يرصد الأشياء، والمواقف، ويجيل نظره بين الناس.
هذا الرصد، والتسجيل، أو لنقل التدوين الذي يقوم به السارد، ليس خاصاً بجيل دون آخر، فالسارد -كما تحدثنا من قبل- يتحدث عن جيل سابق لم يعشه القارئ، وإذا كان المتحدث هو الجد، فإن والد الشاب (المتلقي) قد لا يكون شهده أيضاً، وهذا يبدو أحياناً من الحكايات التي أوردها، ويقارنها بعصره الذي يعيشه، وإن كانت مساحة الماضي في هذه التقييدات أكبر من مساحة الحاضر. لكنها تقييدات يسعى السارد لأن تكون شاملة لجميع جوانب الحياة، فالحديث عن الطعام وإعداده، ومواده، والسفر، وأدواته، ورواحله، والزراعة ووسائلها، والملابس
وهنا نصل إلى القضية الأخرى، التي تبدو للعيان، وهي كتابة التاريخ، فالسارد أراد أن يؤرخ لحقبة من تاريخ الجزيرة العربية مهمة، يرى أنها تندثر أمام عينيه، وأن الناس يبتعدون عنها شيئا فشيئا، بكل تفصيلاتها، فلا يزالون يذكرن منها شيئا، في طرائق حياتها، وفي عادات أهلها، وطبائعهم، ولأنها عزيزة عليه، ويرى من المهم تقييدها، فقد اخترع هذه الطريقة، وسلك هذا المذهب حتى يتمكن من تحقيق هذا الهدف. الطريقة التي يتولى فيها شيخ كبير سرد حياة الناس الأوائل.
إلا أن الجديد في هذا الأسلوب هو أن الشيخ (التاريخ) هنا لا يسرد التاريخ/ الأحداث، فالغالب أن التاريخ سرد لأحداث وقعت في مراحل معينة من الزمن، وقد اعتمد القدماء مثلا في تأليف كتب التاريخ على التأريخ بالسنة، فيقولون أحداث سنة إحدى وأربعين بعد الثلاث مائة، وقد يعتمدون على الأحداث نفسها، فيتكلمون عن معركة بدر الكبرى، أو موقعة الجمل، أو «جراب»، في حين أنه سلك طريقة التاريخ الموضوعي - إن صح التعبير- وذلك أن يختار موضوعا من الموضوعات يتحدث عن طريقة الناس الأوائل به، ويفصله، فيقوم بتأريخ تلك الأحوال من خلال هذا الموضوع، فعندما يتحدث عن «الموقد»، و«المطبخ»، و«الجمل»، و«السيارة»، فإنه يذكر عدته، وما يستعمل فيه، والأغراض التي يعمل لأجله، وما يحتاجه من يعمل به، مما يدفعه إلى الحديث عن الحطب، وطريقة جمعه، وبيعه، وجلبه للسوق، وإيصاله إلى من اشتراه، ثم طريقة استقبال صاحب المنزل وما يقدمه له من ضيافة، ورد فعل الحطاب، وهي دقائق تفصيلية لا يحيط بها علما إلا من عاصرها، أو رأى من عاصرها، ولا تدخل في الأحداث كما هي شغل المؤرخين، والأزمنة أيضا بقدر ما تدخل في حياة الناس اليومية العادية. الأمر الذي يعني أن السارد يؤرخ للمجتمع السعودي في آخر المراحل التاريخية القديمة، ويؤرخ للناس العاديين، أو كما يحلو للبعض تسميته بالطبقة الوسطى من الناس، في حين انشغل المؤرخون بالعظماء، والأحداث الجسام التي تسقط على آثارها الدول أو تقوم، كما عند ابن جرير في «تاريخ الأمم والملوك»، وهو تاريخ ليس يسيرا، يتطلب معرفة شاملة بهذا التاريخ، مع قلة المهتمين به.
كما أنه في هذا العمل لا يكتفي بفئة اجتماعية أخرى كفئة ميسوري الحال أصحاب التجارات، أو الزراعات، بل يتجاوزهم لمن هم أقل من ذلك من أصحاب المهن البسيطة، والأجراء الفقراء الذين يعملون على ملء بطونهم، وطعام يومهم، وهي فئة في الغالب لا تقع عليها العين، فضلا عن أن ترى فيما يفعلون شيئا يستحق التسجيل، ومأثرة تستحق التقييد، وهذا ما وجدناه عند الحديث عن الفتاة التي «تروّي» تنقل الماء، إلى منازل الموسرين، وتمتلئ أثوابها بالبلل. يقول في تصوير هذه المشهد الاجتماعي:
«وهن نساء فقيرات، لم يجدن غير هذه المهنة لرزقهن، يتجمعن بثيابهن الداكنة و«عبيهن» السوداء، على «جوبة» البئر أو «الكافة» التي يستقين منها، كأنهن النحل على مدخل خلية، ليس في المنظر وحده، ولكن في الحديث أيضا همهمة وهمسا، وهن يمتحن بأيد أوهاها سوء التغذية وقلتها، وأضناها الكدح والكد، وأرعشها البرد في الشتاء. فإذا امتلأت القرب، بعد أن ساعد بعضهن بعضا في الملء والحمل ذهبن كل واحدة تحمل قربتها على ظهرها من ثقل ما تحمل، وقارب وجهها الأرض».
من خلال تقنية تصوير المجتمع، ونقل المشاهد المختلفة التي استقرت في وعيه يقوم السارد برواية تاريخ هذه البقعة من الأرض، في مرحلة زمنية معينة. مع محاولة تقديم التاريخ الثقافي أيضاً المتمثل بالحكايات الشعبية التي يمزج بها السرد، يذكر أنه يمتع بها الشاب، ويطرد عنه الملل، وهي في الحقيقة خطاب سردي آخر موازي للتيار العام الذي يتولى سرده الشيخ، فهي تقدم الشاهد على ما يقول حيناً، ونموذجا للموروث الثقافي الذي يستمدون منه قيمهم، ورؤيته للحياة، والأم ثلة الشعبية يدعم به آراءه، وما يقول، والأشعار التي أحيانا يستشهد بها على الحكايات، مما يكشف جانبا من جوانب مكونات المخيال للمجتمع المنقول في هذا الكتاب.