د. صالح بن سعد اللحيدان
الذين وضعوا أسس النقد العلمي وقعَّدوا أصوله كما بينت بعضاً من ذلك في كتابي (نقد آراء ومرويات العلماء والمؤرخين) إنما أرادوا من هذا عدم الخلط بين ما هو نقد وبين ما هو تجريح أو قذع أو تسفيه.
ولقد كان من أول هذه الأسس وتلك القواعد حقيقة النقد ذاته بمعرفة المسار الذي يريده دون لجوء لعنف القول أو الإسفاف أو الغمز، ولقد نتج عن هذا ثاني هذه الأسس، وهو ضرورة لا بد منها في مسار العقل الصحيح، وهو التجرد على حقيقته العقلية، ثم جاء بعد ذلك عدم وجود اختلاف شخصي بين هذا وذاك بين الناقد والمنتقد، ثم كان الرابع وذلك أن يكون النقد بعيداً عن المهاترة والأساليب الاستطرادية التي أشبه ما تكون بالدوران حول حلقة مفرغة، ثم جاء بعد ذلك النزاهة والاتجاه الصحيح وقوة الحجة التي يقبلها الطرف الآخر مدعمة بدليل علمي قائم لا يريم أو بتعليل سليم ثم بعد هذا ولا جرم ضرورة عدم الجرأة بإيراد الألفاظ الموحية بالاستهجال أو التشفي لقصد نصرة النفس
والنقد في أساس حصوله إنما يكون أشبه ما يكون بالمعلم الذي يشرح ويبين ويورد الأمثله بعيداً عن أي اعتبار آخر يفهم منه التعالي أو الوصاية، ولو كان الذي أمامه أطفالاً لا يعلمون من الحياة شروى نقير.
ولهذا أقحم بعض العلماء والأدباء في العصر الحديث أقحموا كثيراً من الأعمال المنشورة في مجال الملاحظة والدراسة وبذل الرأي أنها (نقد)، ولقد برز من هذا طغيان شيء على شيء حتى لا تحسب أن كل هذا هو النقد مما حدا بالعلم أن يسير صوب مجرد النصيحة والنقل، بل لقد عاينت من أسباب ذلك السطو والمحكاة كما هي عند نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وحيدر حيدر، إذ أخذوا من (شارلس جارفس) و(البروتومورافيا)، وهذا إنما يحصل إذ يحصل عن العجز فيلجأ المرء إلى مثل هذا الصنيع، ومع قلة القياس العقلي وقلة سلامة الفهم من المعارض والبعد عن قراءة الروايات قبل الترجمة فإنه يقع ألا يقع أن يدرك القارئ حقيقة الانتحال ولو من طرف ضعيف.
أرأيت القياس الذي يستعمله بعض العلماء عند النوازل والمستجدات إنما يستعمله عند ضعف الوصول إلى ذات الدليل الذي يحتاج إلى موهبة الفهم، وقد جاء قوله تعالى {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}، وجاء في الصحيح (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها).
فقد تجد عالماً بارزاً نحريراً يتمتع بشهرة جيدة لكنه يضعف عند نظر بعض المستجدات فهو إن كان ذا جرأة وكان ذا عجلة أي من النوع العجول فهو يفترض افتراضات إنشائية لا تقوم مثل الكاتب الذي يطرح الرأي أو يطرح وجهة النظر فهو عند العجز عن الفهم الجيد يفترض ويدخل في عالم الخيال ليقنع نفسه أنه هذا هو الصحيح دون تنبه لأصول ما يلزم في ذات الأمر من فهم موهوب جاد مركز نزيه، ولهذا يزل بعض الكتاب في فهم بعض الآثار ليس لأنه من غير ذوي الاختصاص بل لأنهم يطرحون الرأي ويعالجون ما يريدون ثم بعد ذلك يحكمون وهناك من يورد الدليل لكن بعد الرأي وبعد وجهة النظر فكأن الفكرة وكأن الرأي هما الأصل والدليل، إنما هو تابع للفهم والفكر والرأي، وهذا وجدته كثيراً عند (الدواعش) و(المتطرفين).
وهذا دون نكير خلل في الرؤية وخلل في الاستيعاب كما أنه ضار بصاحبه إذا ذهب هذا المذهب دون واجس من عقل سديد، أقول من عقل حميد، ولقد وجدت من خلال تحليلي النفسي المكيث أن هذا الصنف يصدق نفسه فيما يذهب إليه لكنه يحس بشيئين كامنين في اللاشعور (العقل الباطن) الفرح بطرح ما يراه ولعله يعيد ما فعله أو كتبه أكثر من مرة ثم يعقب هذا الأمر الثاني وهو الندم وشدة الحسرة لا شعورياً يحسه ولو بعد حين.
وغالب ظني أن المرور بتجربة قاسية حال الطفولة المبكرة يولد العناد (والأنا) دون شعور من كثير ممن يزاولون الطرح في ثقافات شتى، ولهذا انشق عن الدواعش كثير من الذين راجعوا عقولهم،
وحينما سأل طه حسين لماذا قسوت على (المنفلوطي) في كتاباتك قال إنها ثورة الشباب بينما هو يعبر عن تربية سابقة وقراءة أوحت إليه، واعتذاره جميل قد ينطبق على سواه الخطوة تتبع الخطوة دون نكير من قول سفير.
وقد سبق في هذا مع فارق الطرح واللغة الجاحظ في (البيان والتبيين) فقد أسف كثيراً وأورد ألفاظاً سوقية كل ذلك ينبي عن طفولة مريرة مع أنه جيد في اللغة وسعة الاطلاع حتى جعلوه الثاني بعد الإمام (ابن قتيبة).
ومثله فعل الأخطل في كثير من شعره ونجد هذا عند فرويد من المتأخرين لا سيما وأنه كان حال طفولته في حال غير مقبولة،
وكم عتبت كثيراً على عدنان بن إبراهيم خاصة جرأته وخلطه العجيب بين الآثار الضعيفة والموضوعة، وقد أخذت عليه كثيراً مصادمته لمن يلاحظ عليه بألفاظ قاسية وكثرة حركته والتفاتاته مما يوحي للمدرك للحالة النفسية التي هو عليها، وكم ارتاح له لو حضر لموضوعه بشيء من صحة الآثار ودقة الألفاظ واختياره للخطاب.
ولا جرم فإن الحالة تدعو إلى حقيقة ما يجب أن يكون من العالم والكاتب سواء بسواء في حين أدعو فيه إلى حقيقة النقد بأصوله وقواعده.