سهام القحطاني
تتشكل عقيدة رجال الدين من خلال الخطاب الديني، ويتأسس ذلك الخطاب على قاعدة أن الدين هو ممثل «الإنقاذ والإصلاح» وهي قاعدة تشمل بالتجاور كل فاعل تابع لها، كما أن هذه القاعدة هي مؤسس بالإضافة لماهية المقدس وسلطة الديني كموجه وقائد تشريعي.
ووفق ذلك المسارين تتشكل طبيعة رجل الدين وأهم خصائصها «قيمة الاصطفاء باعتباره ممثل «الإنقاذ والإصلاح» هذا الاعتبار الذي يتبعه بالحتمية «حصانة راعية لاستدامة تلك القيمة»،كما تُحّول قيمة الاصطفاء تلك رجال الدين في الثقافة الجمعية إلى «معادِل للأنبياء» ومسئولية الوصاية والحماية باعتباره «حامل سلطة نافذة».
ومسار التشكّل لعقيدة رجل الدين كونها «الموازي المستديم لظل الإله والوظيفة الرسولية» وصفها النص المقدس بقوله تعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ»-التوبة 31-.
والتوصيف القرآني الكريم لتحوّل قيمة رجال الدين نحو «الاستدامة الربوبية» ليس خاصا بالمسيحية واليهودية؛ إذ إن ذلك التوصيف لا يوجب الحصر على المسيحية واليهودية كما قد يُفهم، مما ينفي وجوده في دين آخر، بل هو إعلان عن نمط تفكيري وسلوكي متطرف مخادع لدور رجال الدين في كل دين وفي كل زمان ومكان.
وفي الإسلام حدث كما حدث في المسيحية واليهودية،فما أسهل من إخراج أي مسلم من دائرة الإسلام لو انتقد «ابن حنبل وابن تيمية والبخاري» فهؤلاء وغيرهم قد تحوّلوا بفضل صانع الخطاب الديني إلى «أرباب من دون الله».
بل نجد «ربوبية رجال الدين» في المجتمعات العربية والإسلامية أوسع مساحة وأشد تطرفا من المسيحية واليهودية،لأسباب عدة منها،هشاشة القيم العلمانية،تدني مستوى الوعي العلمي،تفشي الأمية، غياب حرية الرأي والديمقراطية ، تعصب الفقه الكلاسيكي،مساندة السياسي للديني من خلال شراكة ظاهرها رحمة وباطنها عذاب.
و جذور القيمة-الإنقاذ والإصلاح- ومستويات المسئولية-الوصاية والحماية- و«استدامة الربوبية» ،هي التي تحول رجال الدين إلى قوة عقدية تملك بموجبها سلطة تأثير وتوجيه تهمين على العقل الجمعي لأي مجتمع وتتحكم في أفكاره وأفعاله وردود الأفعال.
تلك السلطة لرجال الدين التي من خلالها يتم التحكم في العقل الجمعي غالبا ما تدفعهم إلى «الطموح السياسي» وفق جدول الاستحقاقات الذي ذكرته سابقا،ولذا غالبا ما تتكرر «صفقة الإخوة الأعداء» بين الديني والسياسي لحكم الناس في كل زمان ومكان.
ولكن حينا يتوحش الطموح السياسي للديني بحيث يقصي أي سياسي ويقوم هو بالدورين معا؛ كما هو في نظام الفقيه في إيران وظهور جماعات سياسية يقودها رجال دين مثل القاعدة وداعش، والحوثيين،وهذا النوع من الأنظمة والجماعات يغلب عليها دائما الديكتاتورية والتطرف والإرهاب.
يحرص كل سياسي على إقامة تحالف مع رجال الدين تحت أغطية توصيفية مختلفة لأهداف متعددة على رأسها «استدامة القيمة الربوبية» ليستثمر السياسي من خلالها قوة تأثير رجل الدين على العقل الجمعي، و يحقق رجل الدين من خلالها طموحه السياسي،الذي يُشبع غروره السلطوي.
يٌبنى تحالف الديني مع السياسي على أساس «أحادية القيمة التجاورية-الاستدامة الربوبية-»؛ إذ إن «الشيطان لا يتحالف مع الله»!، وهنا تبرز لنا «القيمة القدسية للسياسي» بفضل أحادية القيمة التجاورية لرجل الدين،وهذه من أهم مقاصد تحالف السياسي مع الديني، استنساخ الظل المقدس الذي يتمتع به رجل الدين في العقل الجمعي،وبالتالي مشاركة رجل الديني في تلك الاستدامة الربوبية التي تمنحه حصانة موازية للقانون الإلهي.
وإن كانت تاريخية تلك الاستدامة أسبق عند السياسي من الديني،بدءا من العقيدة الفرعونية «أنا ربكم الأعلى» الذي استعانة فرعون لتأكيد وجوب شرعيتها «بالكهنة والسحرة «في زمانه أي المعادل التوصيفي المعاصر «لرجال الدين» وصولا إلى عبارة جورج بوش الابن «الله اختارني رئيسا»، والعقيدة الفرعونية أصبحت «عقيدة سياسية»لكل حاكم وإن اختلفت أساليب التعبير قربا أو بعدا من وعن ماهية «أنا ربكم الأعلى».
يعتمد استنساخ السياسي «للظل المقدس لرجل الدين» على تحويل السياسي إلى «قيمة اصطفائية» تلك القيمة التي تمنحه «حصانة مطلقة محمية بتلك الاستدامة الربوبية» وتلك الحماية ضامنة لاستمراره في الحكم مدى حياته، وضامنة لأمن حكمه والاستسلام الشعبي له.
وذلك التحويل لا يتم إلا بواسطة رجال الدين من خلال ربط السياسي بقيم كبرى أغلبها ديني مقدس تجعل السياسي -وخاصة في المجتمعات الإسلامية- موازيا لقوانين الله في الأرض.
وهذا ما جعل المدونة الفقهية الكلاسيكية الإسلامية تكتظ بالأحكام التي تُجرّم إنشاء الأحزاب السياسية المعارضة، كما تٌجرّم الخروج على الحاكم أو التمرد عليه ويصل حدّ الإجرام إلى ت كفير المرء واستباحة دمه، وتجريم هاتين المسألتين لِما يتضمنا تشكيكا في أصلية الاستدامة الربوبية للسياسي وحقيقة ظله المقدس؛أن الثبات برهان لطبيعة المقدس والتغير انتفاء لأصل هويته،وهو تشكيك في نهاية الأمر يهدد قدسية السياسي كما يهدد قدسية رجال الدين في العقل الجمعي.
وهذا التحكم للمدونة الفقهية في توجيه أفكار الناس وأفعالها هي ضامن حماية لرجال الدين من بطش أي سياسي أو غدره،إذ بمقدرتهم توجيه تلك المدونة للإطاحة بالسياسي والتحالف مع غيره.
«الحكم لي» و«الناس لك» هذا التوزيع هو ميثاق ثابت بين السياسي ورجال الدين ليس فقط في النظام السياسي الإسلامي بل موجود في الأنظمة السياسية منذ فجر التاريخ،فدائما هناك قوتان قوة حاكمة وقوة مؤثرة،صحيح أن القوة المؤثرة قد تتغير ما بين العلم والرأسمالية،لكن الاستدامة للديني فقط.
وتأثير رجال الدين في السياسة وتوجهاتها ليس قاصرا على المجتمعات الإسلامية.
في كتابه «الدين في السياسة الأمريكية «يستعرض فرانك لامبرت تاريخ ارتباط الدين بالسياسة في أمريكا وتأثير الدين في توجه الناخبين والمرشحين ودور رجال الدين في قيادة التغيير السياسي.
ففي عام 1827 انتفض القس عزرا ستايلس إيلي على الرئيس الأمريكي لتهاونه في تطبيق القيم المسيحية وتوسعه في تطبيق قوانين العلمانية العقلانية وقال «إننا أمة مسيحية ولنا الحق في أن نطالب بأن يلتزم حكامنا في تصرفاتهم بالأخلاق المسيحية فإن لم يفعلوا فإن من حق المسيحيين أن يجروا انتخابات أحسن وأفضل».
أما القس «جيري فالويل» فقد تزعم منظمة تدعو إلى «استرداد أمريكا من العلمانيين العقلانيين الذين يمسكون بزمام الحكومة» وهذه الدعوة انتجت «ظهور تيار اليمين المتدين» الذي حقق كما يقول لامبرت تحالفا دينيا سياسيا». اشتدت ساعده عام 1973م مما دفع كل المتدين للخروج إلى الانتخابات للمشاركة وهي مشاركة اسهمت في فوز الحزب الجمهوري من خلال رونالد ريغان عام 1980م.
فرجال الدين يصنعون السياسة أيضا.