القصيدة من مخلّع البسيط كما يُسمّى ومصطلحه العلمي مجزوء البسيط وهو من دائرة المختلف من دوائر الخليل المعروفة والتي تضم بجانب البسيط الطويل والمديد، وهذه البحور تعتبر من الصعوبة بمكان لتشابه تفعيلاتها واستعمال القدماء إنما كان في الطويل الأكثر ثم البسيط وقلة في المديد وأما عروض المخلّع وضربه وتفعيلاته على النحو التالي:
مستفعلن فاعلن مستفعلن، مكررة
وأحياناً يكون الضرب
مستفعلن مستفعل فعولن
وقد جاءت معظم ضربها على التفعيلات الثانية:
خمسٌ وستون في أجفان إعصار
أما سئمت ارتحالاً أيها الساري؟
أما مللت من الأسفار ؟ ما هدأتْ
إلا وألقتك .. في وعثاء.. أسفارِ
أما تعبت من الأعداء ؟ ما برحوا
يحاورونك،. بالكبريت! والنارِ
عند وفاة الدكتور غازي كان في السبعين من عمره فتكون هذه قبل خمس سنوات من وفاته وقد تعب حتى أضناه المسير وهدّه المرض وقد سئم كل شيء وملّ من الانتقال الذي عدّه بمثابة القتال كالأعداء الذين لم يتركوه حتى آخر رمق وهنا استخدم الكناية فالكبريت عن التهديد والنار عن القتال وهذه حالة نفسية تعاود المرء في سنين عمره المتقدمة عندما يبعثر عمره في كدّ وتعب وجهد وجهاد فيصل إلى نقطة حاسمة من عمره لذلك هو يسأل نفسه بقوة ويعاود السؤال ويكرره لما أصابه من داء الركض وهذا كقول زهير:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولاً لاأبا لك يسأمِ
وهنا يأتي على الرفاق بإشارة بسيطة لأنه رثى بعضاً منهم في نفس الديوان كما أومأ إلى الأعداء والذين لم يكونوا ذا بال وأهمية وتأثير كبير في حياته حتى تتجاوز مساحة الكلمات بيتاً واحداً وكأنه أقحمهم مع مصطلحاته الثلاث :( السأم، والملل، والتعب):
والصحب أين رفاق العمر، هل بقيت
سوى،.. ثمالة أيام ..وتذكارِ
بلى اكتفيت وأضناني السُرى وشكى
قلبي العناء ولكن تلك أقداري
هنا الجواب ! لتلك الأسئلة الكثيرة في حواره مع نفسه ( بلى ! ) وهو اقتناع وتأكيد أنه تعب وسئم وليس مجرد وساوس وخواطر تراوده من آن لآن وشكوى القلب استعارة جميلة لم يجعلها إلا للقلب لأنه العضو الأساس الذي يتحمل ولكن ليس باليد حيلة لأنها الأقدار ! وكأنه يردد قول البارقي:
ألقت عصاها واستقرت بها النوى
كما قرّ عيناً بالإياب المسافرُ
كل ذلك مقدمة مطولة لا بد منها اختصر فيها ما يمكن اختصاره وقد أتى بعدها على رفيقة الدرب والتي جعل لها النصيب الأكبر في القصيدة:
أيا رفيقة دربي لو لديّ سوى
عمري لقلتُ فدى عينيك أعماري
أحببتني وشبابي في فتوّته
وما تغيرتِ ..والأوجاع سمّاري
منحتني من كنوز الحب أنْفَسَها
وكنتُ لولا نداك الجائع العارِ
ماذا أقول ؟ وددت البحر قافيتي
والغيم محبرتي والأفق أشعاري
إن ساءلوكِ فقولي كان يعشقني
بكل ما فيه من عنفٍ .. وإصرارِ
وكان يأوي إلى قلبي ويسكنه
وكان يحمل في أضلاعه داري
وإن مضيت فقولي، لم يكن بطلي
لكنه لم .. يقبّل، جبهة العارِ
يرى أرسطو أن الحبكة في الشعر هي روح المأساة وملخص العمل وهنا تأتي حبكة القصيدة وروحها حين يذكر زوجته بالوفاء والصبر وأنه لو يملك عمراً آخر لكان هدية تستحقها أم أيار لإخلاصها وحبها الذي ارتوى منه حتى لم يذق الجوع والعري بعده وهذي صيغة مبالغة جميلة وهي منتشرة في بقية الأبيات وأجملها حين جعل البحر قافيته لأنها امتداد شاسع والغيم محبرة لأنه وعاء المطر كناية عن الحبر السائل للكتابة والأفق الذي يحمل خيالاً واسعاً هو أشعاره ! واعتقد كوحدة موضوعية لو جعل البيت التاسع ثم العاشر من (وإن ساءلوك ...) مكان (ماذا أقول ؟ ...) لكان ذلك أكثر انتظاماً وملاءمةً!
... يتبع
** **
- زياد السبيت