يمكن أن نتحدث عن ثلاثة اتجاهات في الشعر السعودي الحديث، اتجاه بدأ وما يزال تحت عباءة القصيدة الكلاسيكية بفلسفتها واستراتيجياتها الأسلوبية، واتجاه يحاول التخلص من إرث الكلاسيكية وسلطتها التعبيرية والانخراط في شكل من الكتابة يتجه نحو التحديث في الرؤية والأسلوب، واتجاه ثالث راهن تماما على الحداثة كمشروع نهائي للكتابة. وكل اتجاه يقدم نظرة جمالية ورؤية بلاغية لها مبرراتها، ولها رهاناتها اللغوية والفكرية، وبالتالي، لها حقها في الوجود، وكل منها إمكان من إمكانات الكتابة، ويمكنها جميعا أن تلبي الحاجات الجمالية المختلفة عند المتلقين المختلفين، وليس من الوارد هنا ترجيح اتجاه على اتجاه لأن المسألة محكومة بكثير من الخصوصية والنسبية.
الشاعر عبدالله الرشيد، بعد مسيرة شعرية طويلة نسبيا، يمكن اعتباره من المتموقعين، بقناعة ووعي واختيار،في الاتجاه الثاني، وتؤكد بعض قصائده التي تشبه البيانات الشعرية هذا التوجه، كما في قصيدته: في البدء كان الاعتراف، من ديوان قنديل حذام، التي يعلن فيها اصطفافه ضد الحداثة المفرطة التي يصبح الشعر فيها مجرد كلام هلامي لا شكل له ولا هوية، وفارغا بلا معنى، وعاجزا عن أن يقوم على سند من اللغة والبيان والمعنى، وكما في قصيدة تالية بعنوان آية ما بينك وبين الشعر من الديوان ذاته، يدعو إلى شعرية تقوم على الحكمة وتختصر الأحقاب وتمتاح من روح الشاعر حتى يمور الكون في صدره،
والرشيد لا يعلن انتماءه إلى الكلاسيكية الجديدة من خلال تنظيراته الشعرية فقط، بل يجسد ذلك من خلال ممارسته العملية، فهو مخلص للقصيدة العمودية، يسعى إلى أن يوفر لها كل يرتضيه من بهاء وجمال وكبرياء وسلطة، لغة وإيقاعا وحساسية ودلالات، حتى ليشعر القارئ أنه يتنقل في بساتين الشعر القديم، قصائد عبدالله الرشيد تذكرنا في الغالب بشبيهاتها القديمة من حيث شكل البنية ونظام الجملة وطريقة التعبير، ولكنها ترفع رأسها لتقول ها أنذا، لي وجهي ولي هويتي.
ليست قصائده صدى، كما قد يعتقد البعض، للقديم، ولكنها تنويعات عليه وامتدادات له، تتميز بشخصيتها ورؤيتها الفكرية وفاعليتها الوجدانية وطاقتها الجمالية وحساسيتها الفنية، إنها تقيم مع القديم علاقة خاصة تلتقي به وتنسحب منه في الوقت ذاته، تمد يدا إليه وتندفع باليد الأخرى نحو فضاء جمالي آخر مختلف. وبناء على هذا ينبغي أن يقرأ شعر عبدالله الرشيد، ضمن هذه الرؤية التي حددت لها موقعا بلاغيا ثالثا.
يعول عبدالله الرشيد على شعرية صافية تقوم على الوضوح والواقعي والمشترك، فهو يرافع من أجل شعرية رسالية تقدم الإنسان على الشيء، والمعنى على الشكل، والعام على الخاص، وهذه شعرية لها أسسها الجمالية ومبرراتها الوجودية. ولذلك فأغلب موضوعاته وقصائده الكبرى هي مما يستدعيه الواقع، الواقع العربي أو العلاقات الإنسانية العامة، وليس مما تبحث عنه المخيلة، وإن كانت المخيلة حاضرة بشكل أو بآخر في كل الموضوعات.
الشعر، كل الشعر، يهفو إلى سلفه، يشده الحنين إليه، ولذلك جاءت قصائد عبدالله الرشيد تحيل على سياقات تاريخية من خلال الإشارة إلى عدد من الأسماء التاريخية التي استحالت إلى رموز عابرة للزمان وليست مقصورة على لحظتها التاريخية، بل كثيرا ما يصبح حاضرها أهم من ماضيها: الحلاج، الأموي، البلاط، هابيل، جديس، ابن ماء السماء، نصر بن سيار، يعرب، لكنها تتحول لديه كائنات جديدة تنبعث في تاريخ جديد بدلالات جديدة. ومن خلال لغته التي تؤدي الدور ذاته في استئناف حركة السلف الشعري، فهي تتصل بالقديم من حيث متانتها وتنفصل عنه لتقوم بوظيفتها التاريخية الراهنة، بهذا يجمع شعر عبدالله الرشيد أهم ما في التاريخين، ويبني منهما نظام قصيدته. لا يراهن عبدالله الرشيد على الموضوعات المجردة التي صارت من رهانات الحداثة الشعرية، والتي أصبحت رديفا للعدم واللامعنى، وتسببت في كثير من الإعاقات في الفهم والقراءة والتبليغ، موضوعاته الكبرى واضحة وواقعية وهي مما يثقل على الإنسان في حياته الخاصة والعامة، وخاصة ما يتعلق بحالات العالم العربي، فلسطين، سوريا، العراق، وامتدادات ذلك. لكن لديه موضوعات يمكن تسميتها بالهامشي البسيط، وهي مما يصعب، غالبا،تحويله إلى شعر، وأوضحها هنا تلك القصائد التي كتبها في ولديه، وبعض الذاتيات والتأملات الشخصية التي تتحرك في سياق شعري آخر له خصوصياته، كما في قصيدة: كلمات لأشياء عابرة،وقصيدة أضغاث يقظة،من ديوان نسيان يستيقظ.
غير أنه يضيف موضوعا جديدا يتعلق بالشعر والقصيدة والكلمة، يصرح من خلاله برؤيته وفلسفته عن الشعر وجماليته وإبداعه ووظيفته، ورغم أن هذا موضوع قديم غير أنه يكتسب حداثته من تغير مفهوماتنا عن الشعر ووظيفته وتحولاته المتعددة، وهذا النوع من الموضوعات يعطي للقارئ والناقد بشكل خاص مفاتيح أولية للقراءة.
القصيدة الحرة لا تجد بعض أشكالها حريتها في مشروع عبدالله الرشيد الشعري، رغم رغبته في أن يجد لها موقعا، فهي غالبا ما تأتي في الدرجة الثانية، فالعمودية لا تترك لها موقعا مريحا في فضائها، ولا أدرى أثمة لا شعور يردها أم هي حالة عدم اكتمال ذاتي تمنعها من التحقق الكامل؟ ولذلك فهو إما أنه يسعى إلى التخلص منها إلى العمودي، أو يدجنها لتصبح ضرة طيعة للعمودية كما فعل في قصيدة: هي هي، لا مفر. ولكن بعضها الآخر يصمم على الاكتمال والنجاح ويكاد يتمرد على العمودية ويتخلص من هيمنتها ويجد له موقعا كاملا في الديوان مثل مجموعة القصائد التي تضمنها ديوانه: نيسان يستيقظ، بل إن بعضها يعلن انتصاره كاملا على العمود مثل قصيدة: وللبلاغة حجر، من الديوان ذاته. هذا التضافر الإيجابي بين القديم والجديد، بين العمودي والحر، هو ما يسمح باعتبار الشاعر عبدالله الرشيد شاعرا يمسك القديم بيد والحديث بيد، ويعلن انتماءه إلى الكلاسيكية المحدثة أو الحداثة الحكيمة أو العاقلة. لا يغامر عبدالله الرشيد كثيرا في استحداث أشكال شعرية جديدة أو مختلفة، ولا يهتم كثيرا بنداءات التجريب المختلفة، ولا في تجريب أنماط مغايرة من الكتابة، ولا يخوض تجريبا بلاغيا وأسلوبيا أو بنيويا، بل إنه في ديوانه الأخير يعلن، بما يشبه القرار النهائي، انحيازه لخياراته الشعرية المتمثلة بالقصيدة الأصيلة، ولكنه داخل هذه «الضرورة» الشعرية يمارس «حريته» في تقديم نصوص منفتحة على الواقع والعصر والإنسان. يكتب قصيدته، تلك، بثبات واقتدار، مستمدا من اللغة أرقى فعالياتها وأعلى كفاءاتها وأصفى عباراتها وأنقى أخلاقياتها، لغويا وعروضيا. كثيرا ما تجني بعض العناوين على قصائد عبدالله الرشيد، فلا تدعم كينونتها الجمالية، ولا تحرص على تقديم شخصيتها بالشكل المطلوب، ولا تحرض القارئ على اختطافها، لم يعد العنوان الآن مجرد تسمية للقصيدة، بل أصبح استراتيجية بلاغية تعمل على إغراء القارئ وإرغامه على الدخول في القصيدة، بعض القصائد تعرف من عناوينها وتتداول بعناوينها، لكن بعضها يتداول بموضوعاتها حين تعجز العناوين عن أن تكون حاملا سليما لتبليغ القصيدة، لا يشتغل عبدالله الرشيد كثيرا على صياغة العنوان، ربما لأنه يعتقد أن العنوان جزء خارج الشعر، أو قد تكون هذه رؤيته،مع أني أعرف عنه اهتمامه بالعنوان في سياقات أخرى، والحقيقة أن العنوان أصبح الآن جزءا أساسيا من القصيدة، قد تكون له خصصيته، ولكنه لا يقل شاعرية عن القصيدة ذاتها.
** **
- د. عبدالله العشي