سؤاله حساب! . كلما التقيته - وكثيراً ما يلقاني في داره العامرة بوجهه الطلق، وصوته الهادئ-يتهلّل وجهه، ويقدّمني في مجلسه، ثم يجاذبني الحديث قليلا في شؤون الدنيا - وما أكثرها- ثم يسكت هنيهة سكتةً عرفتُها، وألفتُها، ثم يقول: ما جديدك؟
هذه ساعة الحساب، هذا السؤال ليس سؤالاً عابراً، إنه حلقة من سلسلة طويلة من معرفتي لأبي بسام (أ. د. عبدالله بن سليم الرشيد)، تجعلني أقف أمام الحقيقة، وأعدّ للسؤال جواباً قبل أن أجرؤ على الاقتراب من مجلسه، مجلسِه العلميّ دائماً، مجلسِه الذي قلّما أرى أحدا يدخله ليس في يده كتاب، أو يخرج منه وليس في يده كتاب.
هذا السؤال يرتدّ بي إلى نحو عشرين سنة؛ حين كنت طالباً في المعهد العلمي، أسمع أخبار أبي بسام، وأتسقّط أشعاره، ومنها ممالحاته الإخوانية، وأجرّب قريحتي بمعارضة بعضها دون أن يشعر، ثم لما وُفِّقت في الالتحاق بكلية اللغة العربية كان يدرّس المستويات العليا، وكنت أتهيّب زيارة مكتبه، لما له من جلال علمي، وكلما تجرأت هشّ لي وبشّ، وأنا شاب صغير أركّب سؤالات أعددتها، وألحن ارتباكاً أمامَه في جملٍ لا ألحن فيها! وهو يأنس للإجابة أُنسَ الباذل الكريم. حتى إذا صنع الله لي في المستوى السابع -ثم الثامن- أن صرت طالباً في حضرته تعلّمت كيف يكون العلم قائماً على السؤال، يلقيه العالم أو يستدرجه.
يرتدّ بي هذا السؤال إلى يومٍ من أيام 1425هـ حين أتيته ومعي اثنا عشر عنوانا أريد أحدها موضوعاً للماجستير، وهو ينبذها كلها بعصاه العلمية، حتى إذا سألته عن رأيه في دراسة مقالات محمود شاكر -وكنت أخّرت هذا الموضوع عمداً- ارتاح وقال: أما هذا فنعم. ثم سألني أن أخطط الموضوع برأيي وأتصل به، فاتصلت به وكان مشغولاً ينزلُ بيته الجديد فدعاني وكنتُ أوّل ضيف يحلّ في مجلس ذلك البيت قبل أن يؤثَّث، فمدّ لي فيه بساطاً، ومدّ لي من طلاقة وجهه وأنسه، ثم من علمه ما شئت، وأنا الشاب الصغير الذي لم أكن أطمع بشيء من هذا الاحتفاء والعناية؛ فعلمت أنها ثقة ومسؤولية ثقيلة توجب الاجتهاد في الإنجاز.
ويرتدّ بي هذا السؤال إلى عشرات المجالس العلمية التي جمعتني بأبي بسام، وكان فيها كلها يتحدّر بمخزونه المعرفي والأدبي، أو يقوّم فكرة بحثية أنويها، أو يهب ملحوظات على مادة كتبتها، وكان دائماً يدّعي أنه استفاد مما قلته أو كتبته! وتراه يصغي للحديث بطرفه وبقلبه وهو أدرى به، ثمّ بعد كل عمل ينقضي كأنما يسألني: وماذا بعد؟
ذلك السؤال يذكّرني برحلتي معه في كتابة رسالة الماجستير، حين كان يجتهد كما أجتهد ويسابقني إذا أسرعت، ويدفعني إن تأخرت، حتى تمّ سوقها، ونوقشت، ثم بعدها بيسير صار رئيساً لقسم الأدب ذا رؤية إدارية علمية أحدثت أثرها الباقي، وأتيته أسأله أن يكون لي مرشدا في مرحلة الدكتوراه، فأبى، وقال: (الذي عندي أخذتَه) ولا والله ما أخذته ولا أخذت منه شيئاً، ولا أظن أستاذاً جامعياً يقول لطالب صغير من طلابه مثل هذه الكلمة، ولكنه تواضع العالم، ثم إنه وجّهني إلى شيخٍ جليل، أستاذٍ كبير، هو أ.د.صالح بن رمضان، وكان قبل أيام قد حلّ ضيفاً في قسم الأدب، وكنت أهابه، وأخشى سطوته العلمية، وأتوجس من ألا توافق سبيلي سبيلَه؛فامتنعتُ خشيةَ الإخفاق، ورجوت أبا بسام أن أواصل العمل معه حتى نيل الدكتوراه، فتلطّف في الرفض، وأرجأ إحالتي إلى مرشد نحو أسبوعين دون زملائي الذين أحالهم!، حتى عرفتُ أستاذي أ.د.صالح بن رمضان، ورضي هو أن يقبلني طالباً عنده، فكتب أبو بسام خطاب إحالتي إليه في دقائق!، وما زلت أعدّ هذه يداً من أياديه عليّ، وما أكثرها.
إن هذا السؤال يذكّرني بمواقفه العلمية أو النقدية الصارمة، التي لا يعبأ فيها بغير حق العلم، ويُنَكّب عن ذكر العواقب جانباً، وهو ما وضعه في قلب كثير من التجاذبات العلمية العنيفة في الكلية، ومما مسّني من ذلك أنني حين نوقشتُ رسالةَ الماجستير كانت مناقشتي هيّنةً ليّنةً، وجيزةً جداً، في نحو ساعةٍ من الصباح!، ولكنني فوجئت بمنحي درجة ممتاز دون شرف أولى، ولم يكن دارجاً ولا معتاداً أن ينال الباحث درجةً دون الشرف الأولى مهما كانت رسالته! ولم أكن سعيداً بهذا، ولكنه درسٌ في الإنصاف، ودقة العمل، وألا أتحيّف جانب العلم بالعلاقات الشخصية، أو بمراعاة العرف غير السويّ.
ومما أذكر من صرامته النقدية أنني عرضت عليه ديواني الأول؛ جاهزاً للنشر، وطلبت رأيه، أقصد أن يحمده، فنهاني عن نشره!، وأوصاني أن أنشر نصوصاً قصاراً كنت أبعثها إليه برسائل جوّال، ولم أكن أعبأ بها أو أراها جديرة بأن تنشر؛ فعجبت وأهملت ما رآه، فأكّد لي رأيه حين لقيني مرة أخرى، فنشرتها بعنوان: (عشب يُتَفَيّاُ ظلاله) ولقيت قبولاً وصدى ما ظننتهما، وبقي الديوان في الدرج منذ ذاك!، وأرى أنه لم يرض لي بغير الكمال أو بما يشبهه.
إن أستاذية أبي بسام ليست في علمه الواسع فحسب، ولا في مؤلفاته الثرية، ولا في بذله من وقته العزيز لطلابه، ولا في إجلاله للعلم والمعرفة، ولكل من يبذلهما، ومعرفته بحدود العلم ووظيفة العالم، ولا في قدرته على إدارة المعرفة، ولا في لسانه الفصيح واستدعاءاته اللطيفة لأقصى شواهد الشعر في أدنى مواقف الحياة، إن أستاذيته فيما رأيت تكمن في أنه بنى صورة سامية -تكاد تكون طوباوية- للعلم والتخصص واحترام اللغة وتقدير الأدب، جعلت المختصين من طلابه يحترمون ذواتهم، وأبحاثهم، وينزعون إلى السموّ قدر الاستطاعة، ويخشون لوم عينيه، أو خيبة ظنه، يستقصون ليبلغوا رضاه، وجعلتْ من يسعون إلى الشهادة للوظيفة فحسب يتخافتون بينهم كلما طرأ ذكره؛ لأنه في صفائه كالمرآة يوقفهم على حقيقة أنفسهم ومراداتهم.
إنه من أساطين كلية اللغة العربية، يلتفّ عليه الطلاب من تخصصه في الأدب والنقد، بل ومن التخصصات الأخرى، يقصدونه، ويرجون أن يقبل العمل معهم، وهذه مزيّة يعرفها من خبر الفضاء الأكاديمي، وعرف الأساتيذ وطرائقهم مع طلابهم.
وقد كتبت ما كتبت مبيّناً بعض حق أبي بسام عليّ وأنا واحد من عرض طلابه، ولو سكتنا ولم نثنِ أثنت عليه الحقائب، فما فينا إلا من يبدو أبو بسام في تضاعيف كتبه وأبحاثه.
** **
د. إبراهيم بن محمد أبانمي - الأستاذ المشارك بقسم الأدب/ كلية اللغة العربية/ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية