قال عبد الله بن المبارك: «معاوية عندنا محنة»؛ فبه يُمتحن صاحب السنة من البدعة، هذا ما لدى أهل المعتقد، وقريبٌ منه ما كنّا عليه (ونحن فئة دارسة للأدب في جامعة الإمام) إذ نعرف نسيب الأدب من دعيّه، ونمتحنه برأيه في أستاذنا أبي بسام عبد الله بن سُليم الرشيد؛ لأن الأدب وسائر العلوم الإنسانية قد يلجأ إليها المتعالمون ظنا أن فيها سعة للرأي والذوق الذاتي والتداعي المعرفي غير المنضبط وليست كالمخبريات التجريبية، وقد قيل إن أرسطو صنع كتابي الخطابة والشعر لما رأى التلاميذ ينفرون عن الطب والرياضيات والطبيعيات إلى الآداب؛ ليكون لهذين الفنين قوانين كتلك العلوم.
و كان الطلاب في زمننا تسير بهم فصول الدراسة ما تمّيز ربيعهم من خريفهم حتى يأتيهم فصلٌ فيه محاضرة للدكتور عبد الله ، فيكون ذلك الفصلُ هو الفصلَ بينهم، فمحاضرته خافضة رافعة؛ تستظهر مكنون الطالب، فما وعى من علم العربية عليه أن يُظهره ببيانه وبنانه، وهذا ما كان وهو يُدرّسنا الأدب السعودي في أوائل 1424هـ، ففيها برّ الدكتورُ عبد الله وزارةَ المعارف بدفعةٍ من خرّيجي العربية بعد أن نخلها واستصفاها، وأخرج منها ضعفة الإملاء والمطالعة.
وأبو بسام يداول الصوت في محاضرته؛ فيحب أن يَسمع أكثر من أن يُسمع، وفي المقرر السابق أورد قضية نقدية أبان فيها عن رأيه، ثم قال لنا: «حاوروني»، فلم نتكلم، فقال: «جادلوني لكن بحق»، فلم نتكلم، فقال: «جادلوني ولو بالباطل!»، وقد قالها بابتسامة لا تزيح هيبته مبتغيا أن يبدو ما وراء ذلك الصمت من لب يتفكّر أو جهل يتستّر.
ولا غرابة إذا حسبنا أبا بسام مرجعًا في كشف أدواء التحليل الأدبي وحِيل الباحثين فيه؛ فقد خبِرهم بإشرافه وإرشاده ومناقشاته وتحكيمه، حتى أنشأ فيهم منشورًا سماه: (نقاد الصدفة)، وقصّ علينا أفعال آخرين، كلاصق النقد الذي يأخذ تحليلا من بحث آخر ويلصقه في بحثه، ويغّير ما يظنه مخفيًا صنيعه.
وقد سبقت أذناي عينيّ في معرفة أبي بسام، إذ دخلت المعهد العلمي في الملز عام 1414هـ بعد أن غادره الدكتور، ولم تغادره سمعته الحسنة؛ فسمعت شهادات على إخلاصه وعلمه وحبه للعربية، وممن شهد على ذلك طلبة لم يكونوا متميزين علميا، لكنهم صدقوا فشهدوا بما علموا،على الرغم من أن أبا بسام قد قال فيهم سينية ضاحكة عن معاناته مع أمثالهم.
وقد منحني الدكتور عبد الله رُشدًا وشرفًا بإرشاده العلمي وإشرافه على أطروحتي في الدكتوراه بين عامي 1432 و 1437، ولا أدري من أي النواحي آتي بمدحه، أم من علمه ودقة نظره، أم من مكارمه وحسن خلقه أم من إخلاصه وتجاوبه مع طالبه كأن أبا بسام لا يعرف ما يوم العطلة وما النقاهة وما الراحة.
وأبو بسام لم يجمد على قديم ولم يذب في حديث؛فحبه للعربية وعلومها وتقديره للنحو والنحاة جعله يعاتبهم على طرائق التدريس التي «أكلتها البراغيث» - بحسب ما عنون إحدى مقالاته- ثم إن شعره السامي في مضمونه وجواره لأصحاب الأدب الإسلامي لم يؤزه ذلك إلى الانتماء لرابطتهم، ولا رده عن نقد نظريتهم؛ ومن أياديه إسهامه في توجيه أبنائه الباحثين إلى الإفادة من المغرب كما كانوا يفيدون من المشرق، على أن يصونوا عباراتهم من الأساليب النافرة ومن التمحّل في التأويل الذي يجيء به كثير من المولعين بالنقد الحديث كلما غرّبوا.
وقد اخترتُ الدخول بمقالة في المعتقد فاختار الخروج بمثلها، فقد التزم الدكتور عبد الله الحقَّ وابتغى سداد الرأي دون أن يتحوّط بعصبة أو يستعلي بموجة، فعرف الجماعة في الأدب كما عرفها أهل المعتقد: «أن تكون على الحق ولو وحدك»، حتى لا تنأى بك الحماسةُ عن الموضوعية في نقد الخصم ولا المجاملةُ عن الصدق في نقد الصاحب، وهذا وغيره من المناقب التي صعدت به إلى شريف المطالب ومعالي الأمور،حفظ الله أبا بسام الأديب العلامة والشاعر البارع، ونفع به أهل الأدب، وقد فعل.
** **
- د.محمد بن علي السنيدي