أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: من الفتنة في الدين والدنيا: تجرئة العامة على بغض ولي الأمر ومخالفته ورفع هيبته؛ ذلك أن عبد العزيز قائم على التفاني من أجل تحقيق أمن الفرد في نفسه وماله ودينه مع تحقيق أمهات المصالح التي توزن بها نصوص الحسبة؛ وأي دعوة باسم الإصلاح تضخم مفاسد من فعل مسؤولين ومواطنين لم ترض بها الحكومة المسلمة، ولم يحمها عسكر السلطان، ولم يقنن لإباحتها بنظامه الشرعي: فإن دعوى الإصلاح هذه محرمة شرعاً؛ والحكم فيها أنها خروج على الولاية، أو مقدمات خروج؛ وليس ذلك سبيل دولة تدعي أن أجهزتها إسلامية؛ لأنها سعي إلى تقزيم كل مصلحة من أمن في الأبدان والأوطان والأموال والأديان.
قال أبو عبدالرحمن: ويبين هذه الحقائق أن عبدالعزيز رحمه الله تعالى جاء والأمر في شتات؛ فأخذ بكل الأسباب والحيل؛ لتوحيد الشمل، واستعان بالله ثم بسياسته الحكيمة في المعادلة بين المصالح والمفاسد؛ لعلمه اليقيني: أنه غير معصوم تصوراً وسلوكاً؛ بل قد يخطئ، وأنه يضعف كأي فرد من الرعية؛ ولهذا كان يقتص من نفسه بالتوبة والإنابة، وهو على مرأى ومسمع من رعيته؛ فهذا هو وازع الدين والخلق؛ الذي تنظر إليه رقابة المجتمع؛ إذن لا يسعه رحمه الله تعالى في حياته العلنية إلا ما يسع أي فرد من رعيته بأن يكون العلن نظيفاً موافقاً للشرع، ومن ثم يحاسبه في السر من يحاسب أي فرد من أفراد رعيته في سره؛ وهو الله ربنا سبحانه وتعالى.. وهو إلى هذا أمام قوىً وضغوط عالمية فوق قدرته عسكرياً وبشرياً؛ وهو يريد أن تسلم له خصائص ومقومات رعيته في ولايته؛ وأن يظل تعامله مع أشقائه نظيفاً؛ فتحمل عبئاً مرهقاً في النفوذ من أغوار السياسة الداخلية؛ ليحفظ وحدة أمته وأمنها المادي والديني والفكري.. أجل لقد تحمل نفس العبء في النفوذ من أغوار السياسة الخارجية؛ ليجتنب التصادم مع قوى خارجية لغير ضرورة؛ وليحل بالسياسة ما يبعد عن الفتنة.. وهو إلى ذلك أمام واقع مفكك أمنياً وصحياً وتعليمياً وغذائياً، وتقتضي السياسة في الضيق والعسر ما لا تقتضي في السعة واليسر؛ ففي الأولى يكون الأخذ بالعقوبة عن عدل، وفي الثانية يكون الأخذ بالعفو عن إحسان.. ولقد كان الناس في عهود التفكك ذوي قرى محاطةً بأسوار عظيمة عريضة مضاعفة من اللبن؛ وكان لكل قرية مدخل أو مدخلان، وكان لكل مدخل بواب يجمع قوته وقوت عياله من أهل البلد، وكان في كل ركن من القرية مقصورة حربية، وخارج السور أبراج حربية تراقب أي خطر يحيط بالقرية، وبعد صلاة العشاء توصد الأبواب عن الداخل والخارج.. ولا يخلو أسبوع من صريخ لاستدراك غنم أخذها اللصوص، ومن ثم يفزع أهل البلد، وأول من يفزع من ليست له عنز!!.. وسواد الوجه لمن لم يفزع!!.. ومن لم تتعين هبته، أو حال دونها مرض أو شيخوخة: فعليه نائبة مالية يدفعها لأعيان البلد، أو أميرها؛ وربما عاد أهل البلد يدقون طبول الفرح لاسترداد الماشية؛ ولكن يسبق طبول الفرح قادم ينعى فلاناً وفلاناً ممن قتل في سبيل استرداد الماشية.. وربما تبع القرية أراض زراعية، ومفايض شعبان؛ فيزرعونها؛ ويبنون بها قصوراً تعرف بإضافتها إلى البد مثل مقصورة شقراء؛ وللقصر أسوار ومقاصيرعانون فيها ليلاً ونهاراً كما يعانون في القرية؛ فيقتل الأب، أو الأب وابنه، أو الأب وابنه وأخوه في حماية ثور أو حمار كما حدث في قصور (سميرا)، وقصر الحليفة (كنزة)، وقصور (الشعراء).. إلخ.. إلخ.. والناس في جوع لا يأكلون، وإذا أكلوا لم يشبعوا.
قال أبو عبدالرحمن: وربما غزا أهل القرية بتجهيز من الأعيان، وربما عادوا بلا حرب ومع كل واحد فضلة من زهاب تكفيه يومين أو ثلاثة؛ وهو صاع بر، أو وزنة تمر، أو عدد من القرصان المدهونة، أو الحافة؛ فتقوم الحرب بين صغار القرية وكبارها من أجل استرداد الزهاب.. وربما عادوا من الحج ومعهم قديد الأضاحي وبقية الزهاب؛ فيحدث كسور أو شجاج من جراء خلاف شجر بينهم.. ومع الخوف والجوع لا يتم بناء دولة، ولا توحيد جيش، ولا تعليم أمة أمية.
قال أبو عبدالرحمن: لكل هذه الظاهرة البيئية: بطش عبدالعزيز رحمه الله تعالى بالمفسدين، وأبطل الثارات، وشفى النفوس بالقصاص الشرعي؛ وصار يلقن رعيته الأحكام الشرعية بأسلوبهم العامي.. لقد كتب رحمه الله تعالى تعميماً اطلعت على نسخة منه موجهة إلى (عبدالمنعم بن ناقي الحربي) جاء فيها: «من طرف النكال فنحن طرحناه؛ [أي ألغيناه] بموجب الأمور التالية: الأمر الأول رأفة بالرعايا، والثاني ربما أن بعض المأمورين يجتهدون في بعض الفساد؛ لأجل أخذ النكال، وأردنا أن نبطل ذلك؛ لأجل راحة الجميع.. ولكنه إذا ترك الجاني فإن ذلك ما يؤذن باتساع الخرق، فيتخذها الأشرار فرصةً؛ فأحببنا أن نبين لكم ماذا يكون على الجانين الذين يعملون المشاغبة، ويعملون أعمالاً تضرهم بعضهم في بعض، وتترك مأموري الحكومة مكتفين عن ردع الجاني؛ وأما الذي طرحناه فهو أخذ النكال (الفلوس قليلها وكثيرها)، وأما الجنايات كلها فأحبينا أن نضع لها ترتيباً؛ حتى يكون عندكم معلوم يعمل به الأمراء وتمتثل به الرعية. قال أبو عبدالرحمن: ويستمر الخطاب في هذا التقسيم؛ وفي بيان ما أشار إليه من ترتيب استثماراً للمصلحة المرسلة التي يجعلها الشرع من نظر السلطان، وسأدخر ذلك لكتابي الكبير عن الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى.. وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.