د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
كانا «المديرُ والسكرتيرُ» من مدينتين متجاورتين متنافستين وبينهما من الود ركنٌ وثيق، وزار السكرتيرَ وأسرتَه بعضُ كبارهم فسألوه عن أحواله في العمل وحين أخبرهم أن مديره فلانٌ ومن تلك المدينة علق شيخٌ كبير بتلقائية: «يا وليدي عساه ما يؤذيك»؟!
** نقل السكرتيرُ الرسالة لصديقه المدير وضحكا كما لم يفعلا من قبل وأيقنا أن حراك الزمن لا يمرُّ بمن تتوقف رواحلُهم عند الأمس المتبدل بعدد ساعاته ودقائقه؛ فالمتغيراتُ لا تفصح عن نفسها بإشعاراتٍ أو شعارات، ومن لا يقرأُها بوعيه المتحرك في كل الاتجاهات يتوقف في مكانه مستعيدًا ذاكرةً هرمةً لا تصدق أن الأرض تدور والعالَم يمور وذواكرنا في سحائب الفضاء أكثرُ منها على أديم الأرض.
** وعى جيلُ آبائنا تقسيمَ الحارات داخل المدينة الصغيرة واحترابَ صبيتها بالحجارة فما دونها، وعايش الأجدادُ حروب قبائل الوطن وأقاليمِه بالسيف وما فوقه، وقرأنا خارطة العالم التأريخية كما الجغرافية وأدركنا التوحد والتمدد والتشقق والتمزق، ولم ينجُ بلدٌ من الصراعات كما لم يعدم مسارحَ للتكتلات، وانتهت حرب الثلاثين عامًا في أوروبا والحرب الأهلية الأميركية والحربان العالميتان وسواها مما تقدم أو تأخر، وصار أعداءُ الأمس أصدقاءَ اليوم؛ فلا أحد يمنح الحبَّ المطلق لأحدٍ أو الكرهَ المطلق له؛ فلماذا تستيقظ ذواكرُ الأمة العربية عند ثارات الأمس ومآسيه فقط؟
** ودون الإيغال في التجاذبات فقد نستقي من نظرية «القطيعة المعرفية» في الفكر و»موت المؤلف» في النقد قطيعةً تأريخيةً تجعل اليوم متكأها وليس ما قبله ولا ما بعده؛ فكلُّ من سبقنا «أممٌ خلت لهم ما كسبوا وعليهم ما اكتسبوا ولن نُسأل عما كانوا يعملون»، ولا شأن لنا باحترابٍ قضى أو حرابٍ تُبودلت أو قبيلة غزت وأخرى غُزيت أو دولة ظلمت وثانيةٍ ظُلمت مادامت الجراح قد جفّت والعلائق ترممت وكلٌ استعاد هُويته تحت الشمس، ولو فعلنا لوفرنا جهودًا ولفرغنا للقضايا التي لا تزال الأرض فيها محتلة والوطنيون محاصَرين؛ ففي الجوار حاخامات يهود وملالي فارس حيث لا تزال فلسطين وعربستان والجزر الإماراتية وملحقاتها محتلة؛ «فهل تسكت مغتصبة» كما صرخ يومًا مظفر؟
** نحن ضحايا «التأريخ» (والمعنى هنا متصل بكَتبته وفق رؤية قسطنطين زريق في التفريق بين التأريخ بالهمز والتاريخ بالتسهيل)؛ فللتوجهات المتضادة تأرخةٌ متضادة ظللنا أسرى لتفسيراتها وورثةً لخلافاتها، وسنبقى كذلك مادمنا غير قادرين على «القطيعة التأريخية» التي تؤمن أن لكل زمنٍ شخصيتَه وشخوصَه.
** ليس أسوأَ من استدعاء التأريخ بهدف استعدائه، ويكفينا من «التأرخة» وميضُ معرفةٍ قد نرى عبرها مسافات البناء والابتلاء دون أن نقف أمام الدور والقبور فيتحول الضياء إلى ديجور.
** التأريخُ يُقرأُ وقد لا يُقرّ.