د. محمد عبدالله العوين
لا يمكن أن تنقرض الكتب الورقية عند عشاقها المدنفين!
وعشاقها المدنفون هم الباحثون المتمكّنون والذين استبدَّ الغرام بهم؛ فأصبحت أبعد من طلب معرفة وأسمى من هواية وأشرف من تباهٍ وأرفع من ادعاء، فثمة من أصابه هذا الداء؛ داء عشق الكتب وسرى حبها في قلبه رويداً رويداً، من تلك اللحظة التي رمى فيها أول كتاب بسهمه النافذ إلى قلبه حتى تمكن منه العشق الفتاك كما يفتك الحب بالقلوب الرقيقة، فهام بالبحث عن محبوبه في مدن بلاده كالرياض وجدة والمدينة ثم دفعه العشق إلى الهيام بها في عواصم ديار العرب كالقاهرة وبيروت والبحرين والدار البيضاء، ثم حمله العشق الفتاك إلى مطاردتها في عواصم ديار الإفرنج؛ كلندن وباريس وجنيف!
هل أصاب أحدَكم شيءٌ من أعراض هذا العشق الغريب؟!
عشق يبدأ هواية فمتعة فاكتشافاً للعالم فشغفاً بوسيلة تلك المتعة وذلك الاكتشاف، فجمعاً واعتزازاً بالنادر والجديد والصعب من القديم والجديد، حتى يبدأ هذا العشق ينشر أفياءه في المنزل فيحتل غرفة تتلوها أخرى ثم ملحقاً تتبعه صالة فممراً فآخر، حتى تشعر الزوجة أن صاحبها قد هام بضرة وأتى بها عنوة إلى غرفة واحدة في بداية الأمر حتى انتهى بها إلى التهديد بطردها من المنزل كله، بعد أن تتمدد الدواليب في كل زاوية وممر وصالة، وبعد أن تكون رائحة الورق النفاذة أقوى من رائحة العطر، وساعات الوصل مع الضرة أكثر وأطول من ساعات الوصال مع أم العيال!
يتحول الغرام بالمعرفة إلى داء، ثم يتطور هذا الداء إلى أن يكون الاهتمام به في المرتبة الأولى مقدماً على ما سواه، حتى يخيل لمن يتأمل حالة هذا الذي أصاب كبده سهم عشق الكتب أنه مفتون بجمعها أكثر من كونه مغرماً بقراءتها، أو كأنه يجمع ثم يجمع ويطارد الشارد والوارد منها إلى أن تغدو دارته أشبه بمكتبة عامة، مؤملاً أن يمد الله في عمره ليقرأ كل ما طاف العالم من أجله؛ لكنه يفاجأ بأن الزمن يسرقه ثم يختلس منه شيئاً فشيئاً من قواه التي كانت وقَّادة حين كان يطوف الأرض باحثاً عن عشقه، فيجد بعد سنين أن بصره الذي كان يتفرس به في عيون من يهوى الساعات الطوال غير بصره الذي كان، وأنه في جلسته الطويلة التي كان فيها مكتمل النشاط وافر العافية غير ذلك الرجل الذي كان يمضي الساعات جالساً دون أن يشعر بكلل أو ملل، وأن ذاكرته التي كانت تحيط بعناوين كتبه وأسماء مؤلفيها ومواضعها في زوايا مكتبته المشتتة في دارته وما لديه منها مما هو طبعة أولى أو ثانية، أو ما لديه منها نسخة أو نسختان قد شاخت هي الأخرى، فلم تعد تسعفه بما يريد الرجوع إليه. أعرف ممن أصابهم عشق الكتب نفراً كانوا يقترون على أنفسهم ويؤثرون عشقهم بنفيس المال على متع الحياة الأخرى، وهؤلاء كانوا والله متعة الحديث وفاكهة المجالس بما اكتسبوه من معارف وما ثقفوه من علوم وحفظوه من آداب.