إبراهيم عبدالله العمار
من صفات الإنترنت أنها تميل لتحويل كل وسط (مثلاً صحيفة، فيديو) إلى وسط اجتماعي. هذه من ملاحظات نيكولاس كار في كتابه المياه الضحلة التي يدرس فيها تأثير الإنترنت السيء على العقل. المقالات والفيديوات والأغاني وغيرها من الأوساط، تجدها الآن مرتعاً للتعليقات والتقييمات والتواصل والمشاركة، وهذا سيكون له تأثيرات كبيرة على طريقة الكتابة والقراءة، بل حتى تبعاً لذلك على اللغة نفسها. عندما صار الكتاب شيئاً يسمح بالقراءة الصامتة المركِّزة (وهي شيء جديد على العقل البشري) كان من أهم النتائج ظهور شعور القراءة الخاصة، فالكاتب يعلم الآن أنه سيكون هناك قارئ منتبه مركز بعمق ويتفاعل بمشاعره، وأنه سيقرأ النص ويشعر بالعرفان داخله، وهذا طوّر الأدب إلى أشياء لم تكن لتوجد إلا على الصفحة المطبوعة. جرّب الكاتبون أساليب لغوية ووسّعوا اللغة والكلمات والقواعد، باختصار زادت مرونة وقابلية التعبير للّغة، أما الآن فيبدو أن سياق القراءة تغير من الصفحة الخاصة إلى الشاشة الجماعية، وهذا يعني أن الكاتبين سيضطرون للتكيف مع هذا.. سيضطرون أن يغيروا عملهم إلى شيء يسمّى «المجموعية»، حيث يقرأ الناس ليشعروا بالانتماء لمجموعة بدلاً من القراءة للمتعة والتعلم، وعوضاً عن التجريب والبراعة في الكتابة سينبذ الكتاب هذا من أجل أسلوب كتابة عديم النكهة هدفه أن يروق للناس بسرعة. ستكون الكتابة مجرد وسيلة لتسجيل الدردشة والثرثرة.
أيضاً من خصائص النص الرقمي أنه يُعتبر مبدأياً. الكتاب المطبوع عمل منتهٍ، بمجرد أن يوضع الحبر على الصفحة ترسخ الكلمات هنالك ولا تتغير أو تمحى. هذه النهائية لعملية النشر طالما صنعت رغبة المؤلفين والمحررين الممتازين (وهي رغبة تصل حد القلق) أن يتقنوا أعمالهم، ليكتبوا بنية الأبدية، لكن النص الإلكتروني ليس دائماً، يصبح النشر عملية مستمرة بدل من حدث منفصل، وتصبح عملية المراجعة لا نهائية. من المرجح أن هذه العملية التي أزالت إحساس اختتام الكتاب على مر الزمن ستغير نظرة الكاتب تجاه عمله. الرغبة في الإتقان ستتقلص ومعها الدقة الفنية التي فرضها هذا الضغط.
إن توقعات الكاتبين وسلوكهم يمكن أن يكون له تأثير كبير على ما يكتبون، ونرى هذا في الرسالة مثلاً. انظر لتاريخ التراسل، رسالة قبل 50 سنة أو 1000 سنة لا تشبه أبداً إيميلاً أو رسالة نصية مكتوبة اليوم. إن انغماسنا في متعة بساطة التراسل الإلكتروني ورفع الكلفة فيه وسرعته ولا رسميته أدت لتضاؤل التعبير وفقدان اللباقة وانكماش الحصيلة اللغوية.