د. حسن بن فهد الهويمل
قلت، ولما أزل ألح، وأكرر القول إنني لا أنتمي إلى أي كيان، أو طائفة. وحين أدَّعي [السلفية] فإنما أعطيها الأبعاد التي تواكب فهمي، بوصفي مكلفاً مخاطباً بلسان عربي مبين، هو مجال تخصصي، وعلى ضوء ما أجادل فيه عن نفسي: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}.
وحين يكون مصدري [القرآن]، و[صحيح السنة]، فإنني لا أكون بالضرورة من [القرآنيين] الذي رفضوا [السنة]. ولا من [أهل الحديث] الذين يستشعر البعض منهم الاستغناء عن [القرآن].
حتى لقد سمعت أحد المتعصبين يقول: لو نُزِع [القرآن] لأغنت السنة عنه. وهذا من المبالغات المذهبية التي لا تليق.
و[الصحويون] الذين يلح عليهم بالنقد، والتجريح غلاة [الليبراليين] لا يمثلون العودة إلى منابع الإسلام. لقد تقطعت ببعضهم السبل.
أنا لا أنكر أن هناك [سلفيةً] جهاديةً متطرفةً، و[سلفيةً] نصوصيةً متجمدةً، و[سلفيةً] ماضويةً، تاريخيةً، منعزلةً.
[ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً]، ولكني لا أدين السلفية بمقترفات من أخذتهم بنيات الطريق.
أرباب هذه النزعات لايقللون من قيمة [السلفية] التي نريد، والتي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: [هم ما أنا عليه، وأصحابي].
في العقود الخمسة الماضية نشأت معركة ضارية بين [السلفيين] ومُتَعَصِّبة [المذاهب].
تبناها في الجانب المذهبي الحنفي [البوطي] عفا الله عنه. وقد ألف رسالة صغيرة سمّاها [السلفية مرحلة تاريخية] نافياً عنها المذهبية المنضبطة بمنهجها، وقواعدها.
وتبناها من الجانب السلفي المحدث [الألباني] رحمه الله، الذي تصدى لـ[الأحناف] المتعصبين، وخدمَ الحديث النبوي خدمةً لم يبلغ شأوها أحَدٌ. كما تصدى للمتصوفة، ولسائر الملل، والنحل. وكان رحمه الله حادًّا، وحَدِّياً، أللَّب على نفسه.
ومشهدنا الديني ليس بدعاً من المشاهد. لقد حصل الاختلاف منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك حين اختلف الصحابة فيما بينهم، واستمر الاختلاف حتى هذه اللحظة.
قلت مراراً: إن الخطأ ليس في التَّعدد، ولكنه في إدارة الاختلاف، وشخصنة المذاهب. وما أتيت الأمة من تعدد الآراء، وتنوع المفاهيم، ولكنها أتيت من التعصب، واحتكار الحقيقة، والأثرة، والإقصاء، وشخصنة الاختلاف.
قدوتنا إدارة الرسول صلى الله عليه وسلم للاختلاف بين أصحابه=:- [هكذا نزل]، في اختلاف القراءات. [التصويب بالسكوت] في حديث [لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريضة]. و[إنك لعريض الوساد] عند الفهم الخاطئ. وهكذا.
إذاً من الطبيعي أن نختلف، ولكن من الخطأ أن نتعادى، وألا نحسن إدارة الاختلاف.
[السلفية] ليست ماضوية، كما يدعي خصومها، وليست [صحوية] تُحال صحوتها إلى الجهاديين، أو التكفيريين، أو الخوارج، الذين يحوِّلون الصراع من الألسنة، إلى الأسنة. ومن الأقلام، إلى السهام.
العلماء المجددون طرحوا مشاريع [سلفية]، لأنها هي التي تمثل [التجديد] الذي بشر به الرسول صلى الله عليه وسلم، على رأس كل مائة سنة، ولكن بعض المريدين غلوا، وتطرفوا، واختلفوا فيما بينهم، فأساءوا إلى المصلحين، وأتاحوا للخصوم فرصة القضاء على التجديد المشروع، الذي أذن الله به.
وحين نضرب الأمثال بالمصلح [محمد بن عبدالوهاب] أو بغيره، نجد أن طائفة من الآخذين بآرائه جنحوا إلى الشدة، والتضييق، والحِدَّة، والحَدِّية، ومواجهة الآخر، وعدم طرح المشروع بالتي هي أحسن.
فالله سبحانه وتعالى يقول {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
والمصلح -أي مصلح- إنما هو داعٍ إلى سبيل ربه، معتصم بحبل الله، ومستنير بصحيح السنة.
وحين لا تكون هناك حكمة، ولا موعظة حسنة، ولا جدل بالتي هي أحسن، يكون ضرر الداعية أكبر من نفعه.
ومن ثم فإن الخطأ لا يحال إلى المبادئ، ولكنه ناشئ من التطبيق. وهذا ما نشاهده في تاريخ بعض [الحركات الإسلامية]، التي حاد بعض أصحابها عن الطريق السوي، وفضلت الصراع، والصدام على الحوار، والوئام.
والله سبحانه، وتعالى ذم {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا}، وقال عن نبيه: {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ}.
الملك [عبدالعزيز] رحمه الله أنموذج معاصر، عندما عاد من منفاه، وبدأ رحلة التكوين، كانت [الجزيرة العربية] مسرحاً للمذاهب، والتيارات المتناقضة.
ولأنه يريد جمع الكلمة، ولم الشمل، ورأب الصدع، طرح مشروعه [السلفي] بطريقة ذكية، لم يصادم المسلمَّات التي عليها أهل [القرى]، و[المدن]، و[الثغور]. بل طرحه مثلما طرح مشروعه السياسي، تاركاً مسافة واسعة للتأمل، والاختيار.
ولم يتعمد الإخافة، ولا المصادرة. بل غلَّب جانب التعايش، والتعاذر، حتى يُحْدِث صحوة تمتلك القدرة على المفاضلة. ولهذا شاع [المذهب السلفي] المستنير بالدعوة. ورضيت به كافة الأطياف، كقاسم مشترك.
المؤكد أن هناك ثقافات ملفقة متَسَطِّحة، بإزاء ثقافة متجذرة غالبة، تمتلك شيئاً من السلطة، ولكنها إذ كانت حكيمة، فقد استطاعت أن تمرر مشروعها بدون إثارة، ولا إزعاج، كما جنحت إلى تغليب الاحتواء على المصادرة.
[السلفية] قراءة معاصرة لِنَصٍّ قديم، يتجدد، ويستجيب لكل القراءات، والرغبات المشروعة.
ومن تصوَّر أن [السلفية] رحيل إلى الماضي، أو جمود على النص الرديف فقد أساء الفهم.
إنها رحيل بالماضي إلى الحاضر، واستصحاب مرن لنصوص الوحيين اللذين يهمشان النص الرديف الماضوي، الذي لا ينهض بمتطلبات العصر، ليعود نقاءُ الوحيين، وصفاؤهما، ويتواصلان مع الذهنية المعاصرة بكل إمكانياتها، ومتطلباتها السوية. بحيث يتمكن الجيل الحاضر من تشكيل نصٍ رديف جديد، يتوسل بكل الإمكانيات المتاحة.
بهذا تكون [السلفية] ليست ماضوية، وليست تاريخية، ولا صحوية صاخبة، ولكنها تجديدية على ضوء ما بشر به الرسول صلى الله عليه وسلم.
المشاهد كلها بحاجة إلى [علماء] أشداء، يحترمون الواقع، ولا ينعزلون بمثاليات حالمة، متعالية، ويتلقون النص التشريعي، كما تلقاه الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الصحابة بوصفهم نقلة الوحي تلقوا النصوص في ظل ظروف لها سماتها، ومتطلباتها، واستطاعوا بعقلية المؤمن المطيع المواءمة بين حالهم، ومقتضى النصوص، ومقاصدها.
ومن حقنا أن نتلقى النص التشريعي مستصحبين ما نحن عليه من علوم، ومفاهيم، تَحْمِلنا على فهم المقاصد، والمصالح:- [فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى مِنْ سَامِعٍ].
وحين أميل إلى [السلفية] طائعاً مختاراً، أتلبس بها:- عقيدة، وعبادة. وأعيش عصري بكل مستجداته:- [أَنْتُمُ أدْرىَ بِأمُورِ دُنْيَاكُمْ].
فالإسلام أوسع من السلفية، ومن كل نحلة، ومن ثم لا يجوز لأحد أن يختصره في مذهب، أو طائفة.
ومن هنا فلست مسؤولاً عَمَّن ادعاها، ثم لم يحسن القول، والفعل من خلال محققاتها.
وحين يتخذها البعض لافتة، ودعوى، لا أكون ملزماً، بالدفاع، والجدال عن سائر المقترفات، ولا مداناً بها:- {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
الأمة بحاجة ماسة إلى العودة إلى كتاب الله، وسنة رسوله: قولاً، وعملاً، وإقراراً، ومقاصد.
قال الإمام مالك: [لَنْ يَصْلِحَ آخَرُ هَذِه الأمَّة إِلَّا بِمَا صَلُحَ بِهِ أَوَّلُهَا] وهم الصحابة، ومن تبعهم بإحسان، كالأئمة الأربعة رحمهم الله، وسائر أهل السنة، والجماعة الذين يبحثون عن الحق، ولا يعنيهم الانتصار.