د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
حبُّ الاستئثار غريزة، وحبُّ الإيثار ثقافة. فالثقافة أيًا كان مصدرها الدين أو العلم أو الأعراف تهذب الغرائز وتؤطرها وإلا استحال الإنسان كسائر الكائنات الأخرى التي تحكمها غرائزها فقط، ولا عقل ولا ثقافة لها. والاستئثار ينطلق من الأنا والأنانية، أما الإيثار فأساسه «نحن» أنا والآخر، وأسوأ البشر من يستأثر بكل ما يستطيع الاستئثار به حتى ولو لم تكن له حاجة به وغيره في أمس الحاجة له. والجشع هو الأساس الأول للفساد التي تشتكي منه المجتمعات. ويرى علماء النفس أن هناك نوعًا من الاستئثار المتطرف المرضي، تطرف يشبه التطرف الديني أو العرقي، أساسه سيطرة فكرة حب التملك على عقل الفرد وعاطفته دونما حاجة حقيقية أو مبرر عقلي مما يدفعه للجشع المدمر.
وأجمع علماء النفس على أن الجشع سلوك مرضي وغير عقلاني يسيطر على الإنسان. ويبررون ذلك بأن الجشع في حالاته المتطرفة لا يمكن اشباعه، وأن هناك حالات كثيرة دمر فيها الجشعون أنفسهم بطرق مأساوية شتى عندما تحوّل الإحساس الداخلي المستمر بعدم الإشباع إلى نوع من العذاب والألم النفسي الذي لا يمكن السيطرة عليه، ولذا يلجأ صاحبه على الهروب من هذا الألم إما بالإقبال على المخدرات أو الهوس الجنسي أو الانتحار. وإذا انتشر الجشع المرضي في مجتمع دمره. وأول جانب نفسي مرضي مرتبط بالجشع هي ظاهرة «الولع بالكنز» Hoarding التي نهى عنها الإسلام، وهي الولع والافتتان المرضي بتكديس الأموال والأشياء دونما حاجة مستقبلية للفرد لها. والله تعالى يقول في كتابه الكريم: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.. الآية.
ولا يولد الإنسان جشعًا، إنما يكتسب الجشع من مجتمعه وبيئته، وغالبًا ما تلازم شخصية الجشع أمراض نفسية أخرى كعدم الاكتراث بالآخرين في المجتمع Antisocial Personality Disorder، وهو نوع من الانفصام الوجداني عن المجتمع، أي أنا ومن بعدي الطوفان. وتتطور تدريجيًا لدى الجشع جوانب نفسيه أخرى تقلب حياته هو رأسًا على عقب مثل النرجسية والإحساس بالعظمة Narcissistic Personality Disorder، حيث ينفصم الفرد تمامًا عمَّا حوله بحيث يعمى الفرد عن أي حرج في تأثير سلوكه الفردي على الناس من حوله ويكسبه ذلك مزيداً من الإعجاب بنفسه حتى تداهم صاحبه سعادة غامرة كلما أحس أن الناس يفتقرون لما يملك.
وقد شبَّه عالم النفس الألماني الشهير «إيريش فروم» الجشع بالحفرة التي لا قاع لها، يحس صاحبها بأن سعادته لا تكتمل إلا بملئها مع استحالة ذلك، فيتملكه الإحساس بالعجز مع كل ما يبذله من جهد فتسيطر عليه حالة من العجز والقلق المستمر فلا يستمتع بما يملك ويبقي إحساسه بالرضى حالة مستقبلية خيالية لا حالة واقعية لأن عقله ووجدانه محكومان برغبة جامحة للاستمرار بالردم مع استحالة الإحساس بالإشباع.
وقد كان الخليفة عمر بن عبدالعزيز شابًا باذخًا معجبًا بنفسه ثم تحوَّل لأكثر الحكام في التاريخ زهدًا وعدلاً، ووجد راحة لا توصف في ذلك. ويقال إن «سيدراتا قيوماتا» الذي أسس البوذية كان رجلاً غنياً محتكراً مبذراً ويعيش حياة أساسها الاستحواذ والملذات ولكنه مع كل ذلك لم يعرف السعادة الحقيقية قط لأن حياته سيطر عليها الهوس بالبحث عن المزيد من المال والملذات، بحثًا لا نهاية له، حتى اهتدى إلى أن السعادة الحقيقة هي في السعادة الداخلية المرتبطة بالقناعة والتواضع، وبإسعاد الآخرين من حوله. وترى الكاثوليكية أن الجشع ذنب لا يُغتفر في حق الرب. أما البروتستانتية، التي خرج من رحمها النظام الرأسمالي الذي نشر حب التنافس والاستحواذ، فترى، بحسب رأي الفيلسوف وعالم الاجتماع «ماكس ويبر»، أن من يجمع المال مستأمن عليه وعليه واجب إنمائه فقط، فالمال في نهاية المطاف للرب، ولا يجوز له جمعه بشكل غير مشروع أو تبذيره على ملذاته.
ولذا كلما زادت ثقافة الفرد أدرك خطورة استحواذ الجشع على عقله ووجدانه وبقي الوعي والعلم عاملين محددين لنظرته للمال. ولو قارنا بين السلوك الاجتماعي لبعض الأثرياء العصاميين وبذلهم للإصلاح وأعمال الخير، وبين السلوك الباذخ المدمر الذي يطبعه الجهل وحب التفاخر فقط لغير المتعلمين الذين جمعوا أموالهم بطرق سهلة لاتضح لنا الفرق وأدركنا لماذا يتبرع كثير من الأثرياء من أنحاء العالم كافة لمجالات إنسانية كمكافحة الفقر أو الأمراض وغيرها.