د. محمد عبدالله العوين
مهما غضب عشاق تدفق اللحظة العصرية وأطلقوا صيحاتهم عالية في الفضاء بإعدام ما يسمونه مخلفات الزمن الماضي، ونادوا بالتماهي المطلق مع المستجدات الالكترونية فطالبوا بدفن الورق،كل الورق؛ من صحف وكتب ونحوهما؛ إلا أننا لا بد أن نتريث قليلا في إطلاق هذه الأحكام القاطعة الصادمة، فليس لدينا ما يثبت أن عالم الإنترنت يعادي عالم الورق، فلماذا لا نقول إنه يكمله، وإن من المفترض أن المطبعة والإنترنت يتجاوران ويكمل بعضهما عمل الآخر.
ومن خلال متابعة دقيقة لحصيلة نفر غير قليل من أبناء الجيل الجديد بعد شيوع وذيوع الإنترنت بعد سنة 1419هـ من أعمارهم فوق العشرين بقليل وجدت أن كثيرين لم يستفيدوا من أدوات التواصل الرقمي بما فيها فضاء الإنترنت الذي يوصلهم إلى أبعد نقطة في العالم وأكبر مكتبة وأندر كتاب، وأفضل مطبوعة صحافية الكترونية وأغنى وأثرى موسوعات المعرفة؛ بل تبين لي ضعف كبير في اللغة العربية وأسلوب الكتابة وفقر شديد في المعارف العامة وجهل مطبق بالعناوين الرئيسة في المعارف الأدبية والتاريخية والسياسية العربية والعالمية.
وكان من المرتجى أن يفتح الفضاء الرقمي العالم رحبا أمام عشاق المعرفة من الجيل الجديد ويساعد على متانة وقوة تكوينهم العلمي والثقافي، بل على خلاف هذا التوقع كانت النتائج غير مريحة عند عدد غير قليل ممن كانوا محل التأمل من طلاب الجامعات خلال عشر سنوات، بل غلبت نسبة كبيرة منهم سمات لا تمنحهم صفات المتعلمين المثقفين، بل تقرب بكثيرين منهم إلى سمات العوام ممن لم يستمعوا إلى محاضرات علمية في الجامعات وما قبلها.
وغلبت على كثيرين منهم ثقافة الشعر الشعبي والعصبيات القبلية، وتجلى ذلك في الاعتزاز الشديد المبالغ فيه باللهجات والأقاليم، واستبدت بآخرين الاهتمامات العبثية الملهية عن الجد من أنواع الألعاب ووسائل التسلية، واستقطبت آخرين مواقع الخصومات والجدل في قضايا هامشية كرياضة الكرة وغيرها، واندمجت فئة أخرى غير قليلة في علاقات أتاحها فضاء التواصل لم تكن ميسورة من قبل، وهي لا تكاد تخرج عن نطاق التسلية والعبث.
ولا اختلاف على الحق المشروع في الترويح عن النفس والتعلق بهوايات أو رياضات أو عشق لون من ألوان الشعر كالشعبي مثلا ؛ إلا أن ذلك كله لا يعني أن يخرج جيل معظمه ضحل الثقافة أقرب من الجهل إلى العلم، تحصيله من المعارف العامة ضعيف، و تكوينه العلمي في التخصصات الرئيسة هش، هذه والحق معضلة لا بد من البحث لها عن حلول، وربما تكمن بعض حلولها في تشجيع القراءة سواء من خلال الكتب أو الإنترنت.
المقلق أن كثيرين من أبناء الجيل الجديد لا يقرؤون إلا القليل، وربما لا يقرؤون حتى القليل، لا من خلال الإنترنت ولا الكتب الورقية .
وإذا آمنا بقبول هذه النتائج المؤلمة واعتقدنا بواقعيتها سنصل إلى أن الكتاب الورقي الذي نشأت عليه أجيال وأجيال رائعة هو الأصل الأصيل في المعرفة الواثقة .. يتبع