د. عيد بن مسعود الجهني
الدول المنتجة للنفط في دول المجلس واجهت سنوات سمانا في أزمان صعود أسعار النفط، كما واجهت سنوات عجافا عندما تدنت أسعار النفط إلى (7) دولارات في أواسط الثمانينيات، و(10) دولارات في التسعينيات من القرن المنصرم، فاهتزت الميزانيات خصوصا المعتمدة بنسبة تتراوح ما بين 85 إلى 95 في المائة على إيرادات النفط باعتبارها دولاً ريعية تعتمد على سلعة واحدة (النفط).
وفي السنوات السمان وما أكثرها دخلت خزائنها أرقام فلكية من الدولارات، فعجزت عن استغلالها واستثمارها، لأن زيادة أسعار النفط فاجأت تلك الدول التي لم تكن قنوات الاستثمار مستعدة لذلك الغيث من الأموال، لذا لم يكن من سبيل لذلك سوى هجرة عشرات المليارات من الدولارات التي حطت رحالها في بنوك الولايات المتحدة وأوروبا واليابان والصين والهند وكوريا الجنوبية وغيرها، جلّها لصناديق استثمارية مملوكة للدول أو من خلال استثمارات خاصة.
وبهذا تبرز لنا (نعمة) هذه السلعة السحرية التي حبانا بها الله جلّت قدرته فنقلتنا من العوز إلى الثراء لكنها بقدر ما هي (نعمة) في بعض الدول فإن فيها جانبا من (النقمة) باعتبار أن سلعة النفط بقدر ما تجلب من خيرات للدول المنتجة له بقدر ما تثير الصراعات والنزاعات والأطماع حولها.
بل إن بعض دول النفط تشهد فقرا وبطالة وفسادا وعدم مساواة في توزيع الثروات لدرجة أن بعض الدول خصوصا في أفريقيا السمراء رغم وجود النفط فيها بكميات كبيرة إلا أن سكانها من أكثر الشعوب فقرا وهي أشد الدول اضطرابا، تنشب فيها الصراعات والحروب الداخلية والتدخلات الأجنبية وأمثلتها كثيرة في السودان الذي انفصل جنوبه عن شماله ليصبح الدولة رقم 193 في الأمم المتحدة ونيجيريا وغيرها على الطريق. وبذا فإن هناك في أفريقيا ارتباطا وثيقا بين البترول والحروب والصراعات الداخلية على السلطة والتدخلات الخارجية للسيطرة على حقول النفط بشكل أو بآخر من خلال عقد اتفاقيات امتياز نفطية بعقود إذعان، أو حتى احتلال.
ودليلنا على هذا أن حروبا عديدة وصراعات كبرى دارت رحاها من أجل عيون النفط وكان البترول إحدى أدواتها، فالصراع العربي الإسرائيلي الممتد من عام 1948 والحرب الإيرانية- العراقية عام 1980 والتي دامت ثماني سنوات، ورغم ما قيل عن سببها إنه حدودي إلا أن الذهب الأسود كان وقودها، وحرب احتلال الكويت 1990 واحتلال أفغانستان عام 2002 والعراق عام 2003 في أوائل هذه الألفية، والحرب في بلاد الشام التي تشهد صراعا روسيا إيرانيا، أمريكيا وتركيا وقودها النفط، وغيرها من الحروب كلها حول النفط وإن كان أصحاب تلك الحروب أوجدوا لها أسبابا أخرى.
ومن واقع تتبعنا لحقبة النفط في دول الخليج العربي ودول المجلس خاصة وعلى رأسها المملكة يبدو لنا وضوح أيادي البترول البيضاء في نقل هذه الدول من حال العوز والاقتصاد الزراعي البدائي، وعلى ما تجود به البحار إلى الثراء ليصبح النفط نعمة كبرى حبا الله بها بلاد الحرمين الشريفين التي وعدها الله بالخير العميم {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} البقرة 126، {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} العنكبوت 62، {وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ} النحل 71، {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} سبأ 24.
ولذا كان النفط وما زال وسيبقى مصدر خير ورفاه للدول العربية والإسلامية بل والعالم، تنقله ناقلات البترول العملاقة وخطوط الأنابيب والشاحنات والقطارات.. الخ إلى أرجاء الكرة الأرضية لدفع عجل الاقتصاد الدولي، وكل تطور في صناعة النفط ينعكس أثره إيجاباً على رفاه العالم وعلى التبادل التجاري والاستثماري بين منظومة المجموعة الدولية. في ديارنا العربية خاصة دول المجلس غذت إيرادات البترول ميزانيات تلك الدول التي اعتمدت عليه بنسب تصل ما بين 85 و95 في المائة وكان للتنمية المستدامة القدح المعلى من إيرادات النفط، فالخطط الخمسية شريانها الذهب الأسود فعمت الخيرات والتطور والنماء كل أرجاء بلاد الحرمين الشريفين ودول المجلس، فالثروة طالت كل المجتمعات الخليجية ونقلت الدول من حالة لا ثروة إلى الثروة والغنى، فارتفعت دخول الأفراد لتصبح في مقدمة الدول التي تحرص على تنمية موارد دولها، ودفع عملية التطور والنماء في كل المجالات العلمية والصحية والاجتماعية والتشييد والبناء وفي ميدان النقل والطرق. ليس هذا فحسب فحقبة النفط التي عاشها المجتمع الخليجي وما زال ينعم بخيراتها لم تكن قاصرة عليه بل تعدت الحدود إلى عالمنا العربي والإسلامي، بل والدولي، فالدول العربية صاحبة العنصر البشري ساهمت في دعم عملية تنميتنا السريعة فوفد إلى ديارنا الخليجية الملايين للمشاركة في منظومة التنمية سريعة الحركة في خليجنا منذ ارتفاع أسعار النفط التي سجلها تاريخ هذه السلعة أغلى سلعة في التاريخ الإنساني في أوائل سبعينيات القرن المنصرم. أكاد أجزم أنه لا توجد أسرة في محيطنا العربي لم تستفد من ثروة النفط، استقبل الخليج العربي أعداد غفيرة، عملوا بجد واجتهاد في بلاد ثروات النفط بمقابل عادل إلى حد كبير مقارنة في دخولهم في بلدانهم، فكان الأجر العادل مقابل أداء العمل الجاد، فكانت وما زالت تحويلاتهم داعمة رئيسة لميزانيات دولهم. على الجانب الآخر فإن الدول الإسلامية كان لها نصيبها من عائدات النفط، فالملايين الذين يمموا صوب الدول الرئيسة المنتجة للنفط للعمل استفادوا من نعمة النفط الكبرى، أفادوا واستفادوا حتى أن المشاهد لنعمة النفط عندما يزور دولا عربية وإسلامية يشاهد الفارق بين من أسعده حظه ليفوز بعقد عمل في دول البترول مقارنة بمن بقوا في الداخل، مفضلين ذلك على (الغربة) من أجل عيون دولارات البترول. وحتى الدول الصناعية صاحب الاقتصادات الواسة كان ولا يزال نصيبها من نعمة النفط وافرًا حتى في فترات هبوط أسعار النفط، وحتى اليوم وسيبقى، فأعداد غفيرة هاجرت من تلك الدول لتحظى بعقود عمل بعائد في أحيان كثيرة يفوق ما يحصل عليه طالب العمل من دولة عربية أو إسلامية ومرد ذلك تفرد الخبرة عندهم على رأي الكثيرين الذين لا نوافقهم هذا المنحى بالرأي. وإذا كان البعض يذهب إلى القول وهم كثر أن دول إنتاج النفط الرئيسة لم تعد أبوابها مشرعة لدخول العمالة كزمن السبعينيات وما تلاه، فإنني أعتقد أن هذه الدول التي تشهد إصلاحات اقتصادية واجتماعية وتعليمية وفي ميدان الاستعانة بالعمالة الوافدة، هذه الدول ستبقى في حاجة إلى عمالة لكنها تختلف في مؤهلاتها وخبراتها عن عمالة الأمس، وهذه ضرورة وليست ترفاً يفرضها الواقع المعاش في المستوى التعليمي والاقتصادي والتنموي نحو مستقبل أفضل. لكن يبقى النفط الذي كسرت أسعاره عتبة السبعين دولاراً وأنا أكتب سطور هذا المقال، فارساً ما زال عوده صلباً أهم مصدر للطاقة رغم أن هناك فرساناً آخرين يتحدونه في السباقات كالغاز والفحم والنفط والغاز الصخريين وبدائل الطاقة المتجددة.. الخ.
لكن أيضاً هذه السلعة السحرية التي غيّرت وجه الحضارة الإنسانية وأشاع نورها الدنيا كلها ستبقى صاحبة القوة والنماء وكل قطرة منها تعني الازدهار والتطور.
ستبقى الجواد الفائز بكل السباقات.
ومن حسن حظنا أننا نملك أهم وأكثر السلع تداولاً.
لعبت وتلعب دوراً خطيراً في صياغة السياسة العالمية خلال القرن المنصرم.
وستبقى في هذه الألفية.
والله ولي التوفيق
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة