د.عبد الرحمن الحبيب
منذ أكثر من عقدين تواصل الحركات الشعبوية الصعود، خاصة في أوربا، التي بلغت ذروتها عام 2016، وكان نذيراً يؤشر لتصدُّع المؤسسات السياسية التقليدية وسيطرة اليمين المتطرف، وبداية لانهيار النظام العالمي الذي نعرفه وعودة لعالم الصراعات بين القوميات.. هذا جعل البعض بكل أنحاء العالم يرى أن الشعبوية المنطلقة من أوربا لم تعد فقط خطراً محتملاً، بل واقعاً مرعباً.
وفيما كان المراقبون يتوقّعون اكتساح الحركات الشعبوية لأوربا الغربية عام 2017 حين وصلت للمنافسة على الانتخابات الرئاسية، منيت هذه الحركات بنكسة كبرى بانتخابات الرئاسة الفرنسية والألمانية. بعدها رحب بعض المراقبين بحماسة بانتصار الاعتدال وهزيمة التطرف، لدرجة أن الكاتب تشارلز كروثامر كتب في افتتاحية صحيفة واشنطن بوست إبريل الماضي: «لقد اجتاحت موجة الشعبوية، وسرعان ما تراجعت».. مُلخصاً أنه بعد سنوات مخيفة، عادت الأمور على ما يبدو لوضعها الطبيعي.. فالحكمة التقليدية تعود، والناس في النهاية ترجع للاعتدال..
فهل هذه بداية النهاية للحركات الشعبوية؟ الواقع أن هذا ليس فقط استنتاجاً مبكراً، بل أيضاً ليس صحيحاً. فكما أن الاستنتاج عام 2016 كان مبالغاً بتوقّع أن هذه الحركات ستكتسح المشهد السياسي في أوربا قاطبة، فكذلك التوقّع بانحسارها هكذا فجأة فيه مبالغة. فكيف نستوعب المشهد؟
من أفضل من لخص المشهد الأوربي بطريقة منهجية، ما قام به الباحثان ياسشا مونك (مؤلفة كتاب «الشعب مقابل الديمقراطية: لماذا حريتنا في خطر وكيفية إنقاذها) ومارتن إيرمان (أستاذ علم الاجتماع بجامعة بيركلي)، اللذان وضعا في دراسة مجموعة بيانات شاملة للأداء الانتخابي للحركات الشعبوية الأوروبية منذ عام 2000 .
بداية تم تعريف الشعبوية بإيجاز بأنه التنظيم السياسي الذي يميز بحدَّة بين مؤيّديه، الذين يمثّلون الشعب الشرعي، ومعارضيهم، الذين يمثّلون أعداء الشعب غير الشرعيين. بعبارة أخرى، الحركة الشعبوية تدعي أنها تمثّل الإرادة الحقيقية لشعب موحّد ضد النخب المحلية والمهاجرين الأجانب، أو الأقليات العرقية أو الدينية أو الجنسية. هذا التعريف من منطق التنظيم السياسي وليس الإيديولوجي أي الفكر السياسي المستند على خطابات حماسية تدغدغ مشاعر الجماهير لكسب تأييدهم العاطفي مستغلاً تذمرهم ضد الأزمات المعقدة وتبسيط حلها بشعارات فاقعة.
أظهرت نتائج الدراسة أن الصورة العامة لأوربا واضحة: الحركات الشعبوية تكتسب أصوات بشكل متصاعد، فقد كان متوسط حصة التصويت للأحزاب الشعبوية الأوروبية 9.6 % عام 2000 وصعد إلى 17.2 % عام 2008، أما الآن فقد بلغ 24.6 %. أي تقريباً ربع أصوات الناخبين الأوربيين هي مع أقصى اليمين.. وتلك نسبة مخيفة!
أما أهم الخصائص التفصيلة فهي، أولاً: الشعبوية هي الآن الشكل السائد للحكومة في جزء ضخم وإستراتيجي من أوروبا الوسطى. وهذا ينطبق تقريباً على أوربا الشرقية، فبعد ثلاثة عقود من تحريرها من الهيمنة السوفياتية، صارت الديمقراطية تناضل الآن من أجل بقائها في هنجاريا والتشيك وصربيا وبولندا. إضافة لذلك أصبح الشعبويون اليمينيون جزءاً من الحكومة بالعديد من البلدان، من جنوب أوربا إلى شمالها.. من اليونان إلى النرويج.
ثانياً: لم يقم الشعبويون اليمينيون بقيادة أية حكومة في أوروبا الغربية، لكن نفوذهم ينمو بسرعة، فمن أجل درء المنافسة من المتطرفين، صارت الأحزاب المعتدلة تميل إلى اليمين كما في فرنسا والنمسا. لذلك لا يبدو مفاجئاً أن الحكومة النمساوية الجديدة التي تضم تواجداً كبيراً لحزب الحرية الشعبوي أعلنت عن خطط لمصادرة الأموال المخصصة لطالبي اللجوء وإزاحة الأصوات اليسارية..
فكيف ظهرت الشعبوية؟ ظهرت تدريجياً في المحركات البنائية داخل المجتمعات الأوربية. هذه المحركات تشتمل على انعدام الأمن الاقتصادي؛ ومعاداة الهجرة، ومفهوم المجتمع المتعدد الأعراق؛ كما أن وسائل الإعلام الاجتماعية جعلت الأصوات المتطرفة مسموعة بمنتهى السهولة.
والآن، لماذا تراجعت الشعبوية؟ ربما لأن المحركات البنائية على وشك الاستنفاد، مما سيسهل على الأطراف المعتدلة استعادة المبادرة بالسنوات القادمة. بالنسبة للسنة الحالية، فليس من المتوقّع حصول انتصارات كبيرة للحركات الشعبوية. لكن استطلاعات الرأى تشير إلى أن الشعبويين سيواصلون تحقيق إنجازات بالدول التى ستجرى فيها الانتخابات القادمة كإيطاليا وبلجيكا واستونيا. وتخلص الدراسة إلى أن موجة الشعبوية لم تنحسر بعد، ولكن ما لم نعمل الآن، فإنها ستحافظ على قوتها.
أما دراسات البروفيسورة شيري بيرمن (جامعة كولومبيا)، فقد خلصت إلى أن الخطر في استغلال الشعبويين لتقاعس الديمقراطيات الغربية في حل مشاكلها وعدم تلبيتها لاحتياجات المواطنين (انخفاض الأجور، تدهور مستوى المعيشة، تدفق الأموال للنخبة، الجمود السياسي..). بيرمن تستنتج أن الشعوبية هي أحد أعراض فشل الديمقراطية الليبرالية، فعلى أنظمة الحكم التقليدية أن تبذل جهداً حقيقياً لمعالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وإلا فإن الغرب قد يجد نفسه منتقلاً من الشعبوية إلى الفاشية..
المشكلة أن الأطراف المعتدلة لم تعدل في برامجها لمواجهة الشعبوية قدر ما مال بعضها لليمين كانحناء للعاصفة على أمل زوالها عندما يكتشف الناس خواء الشعارات الشعبوية وسوء أدائها فتفشل كما حصل في فرنسا وألمانيا.. لكن ما لم يتمكن السياسيون من التعرّف على الدوافع البنائية للشعبوية ومواجهتها، فمن غير المرجح أن تختفي شعبيتها من تلقاء نفسها، فهي لم تظهر من الفراغ كي تختفي فيه..