محمد آل الشيخ
الثورات والقلاقل والفتن الدموية التي اجتاحت العالم العربي ابتداء من 2011 استطاعت أن تعصف ببعض الجمهوريات العربية، في حين استعصت عليها جميع الدول الملكية، أو من في حُكم الملكيّات كدول الخليج. والسؤال هنا: لماذا؟
الظواهر السياسية لا تأتي نتيجة للصدف، ولكنها مؤشرات ذات دلالة، لا بد للمحلل أن يرصدها، ثم يحاول أن يتلمس أسبابها وبواعثها.
أغلب اليساريين العرب يرجعون ذلك إلى (النفط)، ويجعلون منه سبباً محورياً وحيداً لاستقرار الملكيات العربية الحاكمة، كما يرددون في أدبياتهم. قد تكون الثروة النفطية أسهمت في هذا الاستقرار، ومقاومة هذه الأعاصير، لكن هذا السبب لا ينسحب على دول عربية ملكية، تعاني من ضعف الموارد الطبيعية، كالبترول مثلاً، ومع ذلك مرت بها هذه الأعاصير مرور الكرام، مثل الأردن والمغرب. كما أن العراق وليبيا دول ثرية نفطياً، ومع ذلك سقطت أنظمتها، ما يجعل هذا المبرر لا يمكن قبوله كسبب (وحيد) على قدرة الملكيات في مقاومة الاضطرابات التي سماها المصفقون لهذه الفتن والقلاقل: (الربيع العربي)، مع أنها لا تمت للربيع بأي صلة.
كثيرون تطرقوا لدراسة هذه الظاهرة، في محاولة لفهم أسبابها وبواعثها، إلا أنني أرى أنها ظاهرة متعددة البواعث والأسباب، ومركبة؛ بمعنى أنها منظومة من أسباب عدة، قد تتوالد بعضها من بعض، ثم تتضافر لترسخ الاستقرار؛ أي أن هذا السبب، هو ما ترتب عليه ذاك السبب، لتكون المحصلة النهائية، ما يعيشه إنسان تلك الدول الملكية من أمن واستقرار. وأهم هذه الأسباب في رأيي، والذي يأتي بمثابة (حجر الأساس) هو ركن (الشرعية) في العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكومين.
خذ مثلاً المملكة العربية السعودية، انطلقت شرعيتها التي اتكأ عليها عقدها الاجتماعي قبل قرابة الثلاثمائة سنة؛ هذه الدولة قامت على أسس شرعية، تلقاها الفرد السعودي بالقبول، واقتنع بها، ودافع عنها، فترسخت جذورها في البيئة السعودية وتجذرت، وحين غزاها الأتراك العثمانيون، استطاعوا أن يسقطوها بحكم تفوقهم العسكري، وهدموا عاصمتها الأولى الدرعية؛ ولأن شرعية هذه الدولة كانت قوية ومتجذرة، عادت وقامت مرة أخرى، متمثلة في (الدولة السعودية الثانية)، ثم دب داء الخلاف بين من ورثوا الشرعية، فسقطت، ولكن لم تسقط شرعيتها، فجاء الملك عبدالعزيز، وأعاد إحياءها مرة ثالثة، ولم تزل باقية في أبنائه وأحفاده إلى اليوم. مثال المملكة وسقوطها، ثم عودتها ثانية، وسقوطها وعودتها ثالثة، أدق مثال على ما أريد قوله، فشرعيتها، وشرعية حكامها الضاربة بأطنابها في جذور البيئة السياسية، والتي يتوارثها الابن عن أبيه، هي أهم الأسباب، وهي الأساس التكويني للشرعية، التي يرتكز عليها العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكومين، وهو دائماً المرتكز الشرعي للاستقرار، الذي يقاوم الرياح والأعاصير، في حين أن (الجمهوريات) العربية، ولا استثني أحدا، تكون ناتجة عن (مغامرة)، قام بها عسكري تحت جنح الظلام، وسطا على الحكم، وفرض نفسه، وشرعيته (الوحيدة) المتمثلة ببندقية، يُهدد من نازعه الحكم بها، دون أن تكون له شرعية ورثها الأبناء عن الآباء والأجداد، فتكون هذه الشرعية (هشة)، ومتضعضعة، متى ما ضربها الوهن والضعف، كان احتمالات سقوطها، أكثر من قدرتها على المقاومة والبقاء.
كل ما أريد أن أقوله إن الظواهر السياسية لا يمكن أن تأتي صدفة، ودونما بواعث وأسباب، وما تطرقت إليه في هذه العجالة المقتضبة، يؤكد أن أهم أسباب بقاء الملكيات وسقوط الجمهوريات، كان افتقاد الجمهوريات للشرعية السياسية، وأن عقدها الاجتماعي يقوم على شرعية (البندقية) ليس إلا.
إلى اللقاء