التعليم هو الرسالة المقدسة وإكسير الحياة، هو نهضة الأوطان وحضارات الدول، التعليم هو السر الأزلي القديم الذي حاول الإنسان فهمه وسبر أغواره والارتقاء من خلال تسلّق سوره الممتد امتداد السماء.
منذ عهد سيدنا آدم عليه السلام والإنسان في محاولة دائمة ومستمرة للبحث عن العلم والتعلّم، ففي بداية الخلق البشري بدأت أول حكايات التعلّم عندما علَّم الله عزَّ وجلَّ سيدنا آدم عليه السلام الأسماء كلها وأمر ملائكته بالسجود له وأمره بتعليم الملائكة الكرام، مروراً بقصة هابيل وقابيل عندما علَّم الغراب قابيل كيف يواري جثة أخيه المقتول.
يأتي نوح عليه السلام وينصح قومه ويحاول هدايتهم بقوله {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (62) (الأعراف). ثم يصدر الله تعالى حكمه على الكافرين بالطوفان ويخبر الله تعالى عبده نوحاً أن يصنع سفينة {بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} أي بعِلم الله وتعليمه، وعلى مرأى منه وطبقاً لتوجيهاته ومساعدة الملائكة.
و ها هو خليل الله إبراهيم الذي ولد في أسرة تصنع تماثيل للآلهة وبفطرته يرفض هذا الجو ويبحث ويتساءل كيف يمكن لإنسان عاقل أن يصنع بيديه تمثالاً، ثم يسجد بعد ذلك لما صنع بيديه.
يقول إبراهيم عليه السلام:
{يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا} (42) {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} (43).
و موسى عليه السلام يخرج من مصر إلى مدين هارباً من فرعون وجنوده، ليلقى ربه في الوادي المقدس ثم يعود موسى عليه السلام لمصر داعياً إلى الله وحده، يبدأ الصراع التاريخي بين موسى وفرعون في مصر, يعجب فرعون من هذا المواجهة التي تحدث بينه وبين موسى عليه السلام، يجادله فرعون ويتساءل بقوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} (23) ليأتيه الجواب {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ} (24) {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} (51) {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى}.
ولنا في قصته مع الخضر الذي أرسله الله إليه أسمى وأعظم القيم التعليمية {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} (65) {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} (66) {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} (67) {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} (68) {قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} (69).
توضح الآيات الرغبة الصادقة في العلم والتأدب مع المعلم والصبر على المشقة وغيرها من القيم السامية التي ينبغي لطالب العلم أن يتحلَّى بها.
وتنتقل الرسالة إلى ابن الطاهرة النقية مريم ابنة عمران، إلى عيسى ابن مريم الذي كانت ولادته بحد ذاتها معجزة من المعجزات، تفكر أمه مريم في قلق كيف ستبرر وجوده ليُطمئنها بقوله {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} (26).
تخرج مريم الطاهرة إلى قومها حاملة ابنها في يدها لتواجه نظرات الاتهام والتصريح المباشر فتشير بيدها إلى عيسى معلنةً بذلك صيامها، يندهش القوم منها كيف تطلب منهم الحديث مع طفل في لفافته ليأتيهم الجواب من هذا الطفل {قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكًا أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا} (31).
كبر عيسى عليه السلام وأنزل الله عليه الوحي وأظهر الله على يديه المعجزات. يقول المولى عزَّ وجلَّ في كتابه عن معجزات عيسى عليه السلام: {وَيُعَلمُهُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَالتورَاةَ وَالإِنجِيلَ} (48).
وتستمر الرسالة المقدسة في الانتقال لتحط رحالها عند خاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد صلي الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، المعلّم الأول وهل سيوجد على وجه الأرض من هو أسمى وأعلى وأشرف من الرسول صلى الله عليه وسلم معلِّما ومربِّياً يقول الله تعالى: {وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}. قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}.
كان ديدن النبي محمد والرسل من قبله الدعوة بالحسنى والموعظة الحسنة والمجادلة الإيجابية التي يرتجى منها تحقيق التغير المنشود، التحفيز والمرونة والصبر، إتقان العمل وتجويده التدرج والثبات، وكثير لا يسعى مقال واحد أن يحتويها، جميعها أساليب تعليمية تبنى عليها اليوم إستراتيجيات حديثة فمن عصف ذهني إلى تفكير إبداعي جميعها كانت أساليب الأنبياء صلوات الله عليهم.
انتقلت رسالة التعليم من نبي إلى نبي تحملها القلوب الطاهرة ومن حضارة إلى حضارة تخلدها الذاكرة، فالمدرك لقدسية هذه الرسالة وعمق أثرها تجده واعياً لأهميتها متهيئاً لتحدياتها مؤمن بأنها مفتاح التغيُر.
كثيراً ما نسمع القول الدارج (المعلم شمعة تحترق لتضيء الآخرين) إنني أفنّد هذا القول وأرفضه، فالمعلم ليس بشمعة تحترق وتذوب ويندثر أثرها، بل هو نجم مضيء خالد ينعكس ضياؤه على تلاميذه فينير بذلك عقولهم فهو كالشمس ضوئه يشتعل من ذاته وطلابه كالقمر يستمدون نورهم من ذلك الضياء الخالد.