د. محمد عبدالله العوين
أقضت مخاوف مقلقة مضاجع الحريصين على الصحف الورقية من انقراضها بعد أن أصبح رجيع بعضها أكثر من مسوقه؛ بسبب اجتياح ثقافة العالم الرقمي حياة الناس.
ثمة غزوة رقمية أخرى مبيتة على الكتاب نتمنى ألا تكون في بشاعة ووحشية غزوة الصحف الورقية.
لا أتخيل يوما قريبا أو بعيدا لا نجد فيه مكتبات؛ لا عامة ولا خاصة، ولا يمكن أن أحتمل منزلي فارغا من دواليب الكتب، فهي المتكأ والملجأ والمغيث الموثوق به حين تلم بي ضائقة معرفية في ساعة حرجة من ساعات البحث أو الكتابة لا أجد لها إجابة بين طيات آلاف الصفحات التي تعرضها محركات البحث في عالم الإنترنت كجوجل وغيره، لا بأس، ربما لا يروق هذا الشغف لكثيرين من عشاق أدوات التواصل والمعرفة الحديثة، وهنا لا بد أن أدفع التهمة عن نفسي بـ»التخلف» ولذا سأكتب قصيدة مدح نثرية في العالم الرقمي قبل أن أنثر مخاوفي على انقراض الكتب الورقية!
نحن في عالم الفضاء الرقمي شئنا أم أبينا، وهو عالم ثري بالمعرفة والمباهج والاكتشافات وكسر الحدود والقيود واختصار الأزمنة والأمكنة، عالم يقرب إليك البعيد ويريك ما لا يمكن أن تحلم برؤيته إلا بشد الرحال وطول التجوال، عالم ينقلك من الواقع إلى الخيال، ومن الحقيقة إلى الافتراض، عالم يفتح لك الأبواب المغلقة لينطلق صوتك المكتوم؛ لكنه يسمعه للعالم كله، تتخفى على ذاتك في عالم الحقيقة؛ إلا أنك تتكشف على حقيقتك في عالم الافتراض، تبوح بما لا يمكن أن تنطق بشيء منه ببنت شفة؛ لكنك في عالم الحياة الرقمية تتجلى وتتكشف وتقول ما لا تقوله حتى لذاتك.
أطري عالم الإنترنت بما يستحق من كلمات العشق الباذخة؛ لئلا يتقول علي متقول بأنني لا أجاري العصر، ولئلا يدعي مدع فيطلق علي عبارة شديدة القسوة تصف من لا يجاري ولا يماري الاكتشافات الجديدة بـ»متخلف» أو «متخشب» أو «متكلس» لا يستطيع استيعاب المستجدات، ليست لديه قدرة على فهم الجديد، أو إمكاناته ضعيفة عن هضم مفهومات الحداثة!
أرأيتم قسوة أشد من هذه الاتهامات حين يتلقاها أحدنا من أحد المندفعين الغارقين في تدفق اللحظة وانهمار الجديد فيغلق قلبه وسمعه وعينيه إلا عما بين يديه ولا يلتفت إلى الخلف مطلقا، وهنا مشكلة عويصة في صراع الأجيال والثقافات، فثمة حرب خفية تبدو بعض شراراتها أحيانا ساخنة ملتهبة على السطح في صور مختلفة من احتدام صراع الأجيال على هيئات متغيرة حسب كل زمان ومكان، وهي سنة طبيعية لا مراء فيها في كل عصر ومصر، ومن الحكمة استيعابها وفهم طبيعة تكوين الأجيال الجديدة، بحيث نردم الهوة التي قد تكبر إلى حد يشبه القطيعة النفسية والثقافية وربما الأخلاقية بين الجيل القديم والحديث!
استنفدت كلمات المقال الممنوحة لي في هذه الزاوية ولم أنته من مداورة فكرته الرئيسة .. يتبع