د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
العدول في اللغة من الميل والانصراف، يقال: عدل عن الطريق أي حاد عنه، وتحول إلى غيره، واستُعمل العدول في التراث اللغوي والنحوي والبلاغي مع اختلاف مقاصد أصحاب كل علم، وأقرب ما يكون مفهومه في الدراسات الأدبية والنقدية استعمال عبدالقاهر الجرجاني الذي قصد به التحول من أسلوب إلى أسلوب، بقصد زيادة المعنى والتحسين.
ولمصطلح العدول مرادفات عديدة في القديم والحديث، ففي التراث تتردد كلمات مثل: التحويل والنقل والاتساع والمجاز، وإن كانت تختلف عن العدول في بعض الجوانب، إلا أنها تلتقي معها في جوانب أخرى، أما في الحديث فقد كثرت المصطلحات المرادفة للعدول، خاصة مع الترجمة للمصطلح الإنجليزي (Ecart) الذي اجتهد فيه بعض الباحثين والمترجمين، وبالغ بعضهم في إيجاد بديل عربي له مع وجوده في الأصل، حتى وصلت المصطلحات العربية البديلة إلى أكثر من 40 مصطلحا!
ويمكن القول إن العدول يكاد يكون مرادفاً للشعرية؛ لكثرة وروده في الأساليب الشعرية، فلا يكاد يخلو عمل أدبي من تغيير أسلوبي، أو انزياح غير متوقع، يحاول من خلاله المبدع إدهاش القارئ، ومفاجأته، من خلال إبراز تفننه اللغوي، وقدراته على الابتكار الدلالي، وجعله يتأمل طويلا في تراكيب النص وإسناداته، مطلقاً لنفسه العنان في تخيل صور جديدة متميزة.
غير أن هناك من المبدعين من جعل العدول مشجباً لكل انتهاك لغوي، حتى أصبحت كثير من النصوص مشوهة لكثرة ما فيها من انتهاكات وانحرافات لغوية، زاعمين أن ما ينتجونه من نصوص تستخدم إمكانات الأسلوبية، التي يرون أنها توظف -بهذه الممارسات- القدرات اللغوية خير توظيف. ومع هذا فإنَّ العدول إذا استخدم بذكاء فإنه يكون انتهاكاً مؤقتاً ومفيداً فائدة طارئة بناء على استغلال الممكنات اللغوية وتوظيفها فنيا وفق أسس معينة، وتقاليد وقوانين شعرية معروفة.
ولهذا نرى كثيراً من المبدعين لم يستوعب تماماً الفكرة الرئيسة للعدول، ظناً منهم أن كل انتهاك لغوي مسموح به، بوصفه نوعاً من أنواع الإبداع النصي، وعلامة من علامات التميز والقدرة على التصرف في الألفاظ والتراكيب، فيمنح نفسه الحق في العبث اللغوي والفوضى الإسنادية، بحجة أن ما تراه هو مجموعة من العدولات والانزياحات التي تسمح بها اللغة، وتفرضها الدلالة، وتحتاجها الصورة الشعرية، فإذا فتَّشت عن ذلك لم تجد له أثرا!
والمشكلة الكبرى أنك حين تواجهه بهذا العبث وتلك الفوضى، وتطلب منه أن يفسر لك شيئاً من الدلالات التي يقصدها، أعلن احتجاجه، مؤكداً أن هذه الأمور من وظيفة المتلقي، وأن المبدع لا يحق له أن يتدخل في أداء هذه الوظيفة، وإلا لفسد النص وضاقت المعاني وانحسر الخيال، فيبقى المتلقي حائراً في هذه الفوضى الأسلوبية، دون أن يخرج بأدنى فائدة.
إلا أنَّ هذا كله لا يعني أن يتخلى القارئ عن مسؤوليته في الوقوف والتأمل، ومحاولة البحث وراء جماليات صور هذا العدول، فليس كل انزياح عبثا، وليس كل عدول فوضى، غير أن الجماليات الكامنة والأسرار المتوارية خلف الانزياحات تحتاج إلى ثقافة عالية، وذائقة متميزة، ووقت كاف للوصول إلى أغوار النص وما يحمله من قيم دلالية وجمالية.
ويمكن القول إن العدول هو الذي يمنح العمل أدبيته وفنيته، وهو الذي يعطي النص قيمته الجمالية، واختلافه عن أجناس الخطاب الأخرى، وما لم يقف المتلقي على صوره وملامحه وجمالياته، ويعيش بحسه وعقله وقلبه مع ما يخلقه من خيالات بديعة، ويتلمَّس من خلاله تفنن المبدع في اختياره لألفاظه، وطريقته في إسناداته، وما ينتج عن ذلك من دلالات وصور وإيحاءات لا تسهم في خدمة فكرته الرئيسة فحسب، بل في خلق جو فني ممتع يجعلك تنتشي طربا وتستمتع جمالا.
وعلى مستوى التحليل المنهجي ومعالجة النصوص الإبداعية يقع كثير من الدارسين في خلل كبير وتقصير واضح في التعامل مع ما يحمله العمل الأدبي من صور هذا العدول، إذ يظن بعضهم أن وظيفته تتوقف عند إحصاء مواضع العدول، وتلمس مواطنه من النص، وبيان كيف حدث، وطريقة المبدع في إيجاده، دون أن يتجاوز ذلك إلى الوظيفة الأساس، وهي البحث وراء جماليات هذه الأساليب، وإبراز القيمة الفنية والدلالية التي أضافها، سواء على مستوى الشكل أو على مستوى الدلالة أو على مستوى الإيقاع، ويتجاوز ذلك أيضا إلى الكشف عن الملامح الأسلوبية التي شكلتها تلك الانزياحات، وكيف منحت النص الإبداعي خصوصيته، كيف أبدع الأديب في استثمار هذه الانحرافات اللغوية لخدمة نصه، وتأكيد رؤيته، وجمال تشكيله.