يُعد مصطلح (ما بعد الصحوة) مصطلحًا حادثًا؛ فهو يجيء لاحقًا لسابقِيه (ما بعد التنوير، ما بعد القومية، ما بعد الحداثة..). ويُطلق مصطلح الصحوة على مرحلة ذات صبغة دِينية غشيت المجتمع السعودي أوائل القرن الهجري الحالي. لم تأتِ الصحوة من فراغ؛ بل كانت لها حيثياتها، وتأتي في مقدمتها (بحسب تركي الحمد -المجلة العربية - 2010/6/11) الثورة الإيرانية التي «أدت إلى تأجيج الصراع السعودي الإيراني، وحاولت كل دولة تشجيع ودعم الخطاب السياسي الديني الموالي لها سواء في الداخل أو الخارج». ومن حيثياتها الغزو السوفيتي لأفغانستان الذي «أدى إلى ظهور المقاومة الأفغانية التي رفعت شعار الجهاد الإسلامي، وهو الأمر الذي جيَّش الكثير من الشباب خارج أفغانستان، وأدى إلى نشر الخطاب الإسلاموي بشكل أكبر». ومن حيثياتها حركة جهيمان الذي «انتصر فكريًّا وثقافيًّا، وأصبح الخطاب الديني المتعصب هو السيد في المملكة». ويمكن إضافة موجة المد القومي العربي التي اجتاحت العالم العربي فاستبدلت روابط اللغة والتاريخ والثقافة العربية برابط الإسلام، فكانت عاملاً مهمًّا في قيام الصحوة. على هذه الحيثيات قامت الصحوة وتفرعت عبر ما يناهز الثلاثة عقود، وكانت لها إيجابياتها، كالاستمساك بالكتاب والسنة، وتحقيق التوحيد، ونبذ البدع والخرافات، والإقبال على العبادات والطاعات، والتفقه في أمور الدين... إلخ. ولأنها لم تُرشَّد بل تُركت لفورتها العارمة كان لها إفرازاتها السلبية، كتركيزها على الشكل الخارجي، وجعلها إياه الفاصل بين التقوى وخلافها، واهتمامها بالنفع الذاتي في أمور العبادات على حساب النفع المتعدي، ومبالغتها في الاهتمام بـ(الأمة) على حساب الوطن، وإهمالها حقوق العباد مع تركيزها على حقوق رب العباد، والأدهى من ذلك انتماء بعض أتباعها للجماعات التكفيرية. ومع أن الصحوة كانت لها مواقف تصادمية مع بعض المنتجات العصرية والفنون، ومع أنها ضيقت واسعًا، ومارس بعض المنتمِين لها الإرهابَ ضد وطنه، إلا أن بعض منتقدِيها جانبوا الصواب عندما وصفوها بأنها وقفت بوجه التنمية، وهي لم تقف ضد سكة قطار، أو مشروع مطار، أو مد طريقٍ، أو إنشاء مصنع حربي، أو معمل أدوية، أو صرح تعليمي، أو منتج ذي نفع ظاهر كالأسلحة الحديثة والأجهزة المتطورة والتقنيات والآلات المفيدة، بل كانت تدعو للاهتمام بها، بل إن الصحوة كانت من أوائل مَن نبَّه على الفقر والفساد. عمومًا، الصحوةكمجايلتها الحداثة- كتلة تاريخية وتولَّت بكل حمولاتها، وعلى رموزها أن يتحملوا نتائجها غير الراشدة، وما يعنينا أننا أصبحنا نعيش مرحلة جديدة مغايرة، وهي بدورها ستخضع لناموس الزمن، وسيعتريها ما اعترى غيرها من المراحل المتصرمة، وستشهد حالات ازدهار ونمو وتفتُّق، وسيكون لها -كغيرها- كَمٌّ من الإيجابيات وبعضُ السلبيات، ولذا ينبغي علينا جميعًا -إن كنا صادقِين معها- أن نشتغل على تعزيز إيجابياتها، ونعمل على تلافي سلبياتها، ونَحذر ممن يسعى من خلالها لتحقيق مآربه، ونتيقظ لكل تحولاتها، ونراجع بين فترة وأخرى أدبياتها، ونعمد من حين لآخر لتصحيح مسارها، معتبرِين بالمراحل السابقة لها. أما (النفعيون) فلن يقبلوا بهذه المراجعات؛ لأنهم لا تعنيهم نجاحات المرحلة واعتدالها قَدْر تحقيق مصالحهم. ولْيعلموا أنهم إن لم يَصدقوا معها وظهرت لها نتائج غير المأمولة منها فإنهم وحدهم من يتحمل تَبِعاتها؛ كونهم خانوا المرحلة ولم يُخلصوا لها.
** **
- محسن علي السُّهيمي
Mashr-26@hotmail.com