د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
على كثرة اختلافي إلى معجم القراءات لعبداللطيف محمد الخطيب، الذي نشرته دار سعد الدين في دمشق عام 2002م. مستعينًا بكنوزه لم تنازعني نفسي إلى النظر في مقدماته، لإلفي مقدمات المعجمات تعرّف بما لست مضطرًّا إليه، حتى هُديت يومًا إلى النظر في هذه المقدمات؛ فإذا بها تهجم عليّ بما لم أعهده من قبل.
بدأَتْ برسالة مفتتحها «من عبداللطيف محمد الخطيب إلى أخيه سعد عبدالعزيز مصلوح»، وهي قطعة أدبية تغري بالرواية لولا ضيق المجال؛ ولكن جمارتها قوله «وإني إذ أضع كتابي هذا بين يديك فإنما أريد أن تنزل فيه بمبضع حادّ في مفاصله، وأنت الخبير بذلك، وتظهر للناس ما فيه من نقصٍ ليستدركوه، وعيبٍ ليصلحوه، ولا يَحُولَنَّ ودٌّ بينك وبيني من قول كلمة الحق على القدر الذي تراه فيه. وأريد -مما أريد منك- أن تضع للناس في فاتحتك هذه علاماتٍ على الطريق يهتدون بها في تناول مسائلهم من هذا الكتاب، وتأخذ بأيديهم إلى منابع الخير التي أزعم أنها فيه، إن ذهبتَ فيه مذهبي، ورأيتَ فيه ما أرى. وعلى هذا فاكتب –أيّها الأخ الفاضل- ما تكتب وأنت تُنْزِل عملك في ميزان الآخرة، فذلك خير وأبقى، لك ولي، وهو حسبك وحسبي».
وأما جواب سعد لأخيه عبداللطيف فجاء عملًا مدهشًا زُوي فيه بحث علميّ رصين في إهاب لغة أدبية لا تجور به عن دقة العلم، فوضع المعجم كالجوهرة في نظام لدرس العربية، على أنه قبل هذا أجمل الثناء على هذا المعجم بكلمة تمتح من التراث قوامها، وتستحضره في الذهن من غير استنساخ، وتستلهمه بما يثري كلِمها بما هو واف بأحكامها، قال سعد «والحقُّ أن أمر هذا المعجم وصاحبه عَجَبٌ من عَجَب، أَرَأَيْتَكَ هذا الذي وَدَع الوِكال والهوينا، وتَجَافَى عن طلب الذكر والمثالة بين الناس؛ طلبًا منه لما هو أَبْعَدُ غَورًا، وأَعْلَى قُلَّةً، وأثقل وزنًا. وتعرُّضًا منه للباقيات الصالحات التي هي عند ربك خيرٌ ثوابًا، وخيرٌ أملًا، لقد نَصَبَ أخي عبداللطيف لغاية تفوت ذَرْع العُصْبة أولي القوة، وتَصدّى فردًا لأحرف القرآن جمعًا واستقصاءً، وتحريرًا، وتحقيقًا، وتوجيهًا، وتخريجًا. حتى كان العمل الذي لا يكاد يَشُكُّ المـُتَصَفِّح لأثنائه أنّه قَمِن بأن يكون معجوبًا منه، ومعجوزًا عن مثله، في زمن فَسَد فيه السمين بالغثّ، ورُقِّع فيه الجديد بالرَّثِّ، واختلط فيه المـُبْرَم بالسَّحِيل».
جعل السعد حديثه في ثلاثة مطالب: أولها بيان الحاجة إلى معجم للقراءات، والثاني جلاء مزية هذا المعجم، وأما الثالث فدليل يجلو به وجوه الانتفاع الممكنة بما يَضمُّه المعجم من كنز لُغَويّ لحلّ كثير من معضلات الدرس اللساني العربي، وإضاءة المواطن المظلمة في تاريخ العربية.
ذكر في المطلب الأول أن المادة اللسانية اللازمة لكتابة الدرس اللساني التاريخي ذات ثلاثة شعب: المادة اللسانية في عصر الاحتجاج، والمادة اللسانية بعد عصر الاحتجاج، والمادة اللسانية الحية، وبمعالجتها يعاد تركيب التاريخ اللساني للعربية وفاق مقولات منهجية ثلاث: تكامل المادة اللسانية، وخضوع مساراتها واتجاهاتها لقوانين متكاملة أو متوازية، وأن الفصحى ليست بالضرورة أقدم نطقًا من لهجاتها؛ فقد تحتمل اللهجة من الصور المتصلة ما هو أقدم، ومثلها القراءات الشاذة قد تشتمل على صور أعرق من الفصحى منذ كانت الفصحى انتخابًا لجمهرة ما استقرّ استعماله عصر الاستشهاد، ولما كانت القراءة متصلة الرواية شفاهة وتلقّيًا جعلها ذلك في مكان الصدارة في أهمية رسم صورة التنوع اللغوي، ومن هنا يتبين خطر ما أنجزه الخطيب من زويه هذه الظاهرة في بوتقة يسهل الوصول إلى مفرداتها.
وبيّن في المطلب الثاني مزايا المعجم التي منها أنه كان بجمع مباشر، وهو صنيع وإن غذمر الوقت أدنى إلى تجنب المزالق، والخطيب جامع ذو يد صناع له سابقة حسنة في هذا الفنّ، ومن المزايا اندياح دوائر مصادر الاستقراء لا تكثّرًا بل استقصاءًا، ومنها توسع في التوثيق الدقيق والهداية إلى المظانّ المستوفية، وأتيح للمعجم أن يعزو ما فات عزوه في غيره، وميّز المعجم بين تعدد قرّاء القراءة الواحدة وتعدد الرواية عن القارئ أو الراوي، ومنها استدراكه على المصنفين أغاليط وأوهامًا كثيرة، ومنها وفرة المادة الصوتية حتى استغرقت التفاوت في طول المدود، واهتم بتخريج وجوه القراءات الموافقة لرواية حفص وغيره وهو من مقتضيات رسم خريطة القراءات، ومنها أنه لم يقنع بضبط القراءات بالعلامات المعتادة بل بالعبارة دفعًا لما يلبس. ومنها أنه أورد قدرًا من مسائل خلاف العلماء في القراءات، وكان حاضرًا في كل تحليل صرفي أو نحوي فيحلل ويختار ويعلل، وحرص على بيان ما يتصل بلغات القبائل وهو ما يعين على معرفة التوزيع الجغرافي للهجات في عصر الاحتجاج، جمع المؤلف شتات قراءات تناثرت في أمالي القدماء وقيدها بنظام في معجمه، وفق المؤلف إلى العبارة الدقيقة المقدودة على قدر المدلول.
وبين في المطلب الثالث وهو وجوه الانتفاع الممكنة بهذا المعجم مفصّلًا في ميدانه اللساني فسمى ستة أوجه؛ أولها بيّن المعجم أن أرضَ البحث في التراث بكرٌ تنتظر الارتياد، وثانيها أن البون شاسع بين «نحو الفطرة على ألسنة الفِصاح ونحو الفطنة في مصنفات النحو»، وثالثها إمكان إعادة صياغة التحولات الصوتية والصرفية والنحوية وتفسيرها تاريخيًّا بما في المعجم من مادة سخية، ورابعها أن علينا إعادة رسم الخريطة اللسانية في عصر الاحتجاج بما عزي لاستعمالات القبائل وبتمحيص بيئات القراء ورواتهم، وخامسها أنّه يمكن استدراك بعض ما فات معجمنا اللغوي، وسادسها القناعة «بإمكان الكشف عن القوانين والسنن الفاعلة في تطور العربية، والحاكمة على هذا التطور على نحو يمكن به إعادة تصوّر الماضي، وتفسير الحاضر، والتنبؤ العلمي بفعل مسارات التطور في المستقبل، قياسًا للغائب على الشاهد».
هذه تقدمة أستاذنا العلامة سعد عبدالعزيز مصلوح متعة للعقل والنفس، وفات بجني جمارتها واستخلاص محصولها ما حفلت به من لغة شاعرة غلفت سياقات علمية ففثأت سورة إشاريتها، ومن هنا هي جديرة بالقراءة والتأمل، وهي إن لم تبلغ لديك أعلى درجات الإقناع فهي بلا جدال ستبلغ أعلى درجات الإمتاع.