سهام القحطاني
ليست هناك مجتمعات دينية ومجتمعات لا دينية، إنما هناك اختلاف في ماهية الدين الذي يؤمن بها كل مجتمع، وتتحول إلى عقيدة مؤِسسة لشرائعه وقوانينه ونظامه الأخلاقي.
وبذلك فالدين في أي مجتمع له تأثيره على الفرد والمجتمع، أما قوة أوضعف ذلك التأثير فتعود إلى عدة أمور منها، وعي الفرد،مساحة الحرية، درجة تأثير قيم العلمانية والليبرالية، أما المسألة الأهم في ثنائية القوة والضعف تلك فهي «علاقة الدين بالسياسة».
وهي المسألة الأهم؛ لأن التراتبية التأثيرية تكاد تكون معقدة لحد التوهان بسبب مشاركتهما في أحادية المصلحة والمنفعة، وتكاملية السلطة.
لاشك أن سلطة الدين هي أسبق من سلطة السياسة، لكنها تظل سلطة بلا قوة رغم امتلاكها مصادر القوة؛ لأنها لا تستطيع أن تشكل من خلالها «قوة نفعية داعمة لسلطتها»؛ والسبب في عدم الاستطاعة هو»التوصيف الرئيسي للديني» «المثالية والسلمية» الذي يترفع -التوصيف- غالباً عن أي انتفاع مادي بسلطته أوتحويله إلى حسابات دنيوية بصور علنية.
الدين في ماهياته المختلفة غالباً ما يتقصد الفئات التي تعاني من أشكال القهر والظلم والتهميش، باعتباره المضاد الحيوي للتخفيف من آلام تلك الفئات، وتلك الفئات هم غالباً أغلبية أي مجتمع ومركز جماهيريته،كما يتقصد الفئات التي تعاني من اضطرابات فكرية وعقدية «الحيرى بين السماء والأرض» تلك الطبقة من البشر التي أبدع إريك هوفر في تحليل أفعالهم من خلال كتابه» المؤمن الصادق والفئات الأولى والثانية هي التي تصنع منها السلطة الدينية الظهير الشعبي لها و»طبقة المتطرفين».
إن الدين أوالوجه البارز له هو الإنقاذ والإصلاح ضمن منظومتي المثالية والسلمية، بعيداً عن استخدام القوة، حتى لا تتعرض تلك المنظومتين إلى تشكيك يسحب من رجال الدين سلطتهم «كأنبياء إنقاذ وإصلاح»، لكن الوجه الخفي هو وجه متوحش يحمل عنفاً مدمراً لإنسانية الآخر، ولو تأملنا بطانة أي حروب سياسية سنجد أن من يدفع الجميع نحو الجحيم هي سلطة الدين كما حصل في الحروب الصليبية وحروب المسلمين السنة والشيعة. لكن ذلك الوجه المتوحش يظل مندساً بين ثنايا الأنظمة السياسية.
إن فكرة التزاوج بين الديني والسياسي هي فكرة عريقة تاريخياً، منذ أن عرف صناع السياسة قيمة الديني في الهيمنة على توجهات وأفعال الشعوب ومعتقداتهم. وعرف في المقابل رجال الدين وكهنته قيمة السياسة كقوة داعمة لامتداد سيطرة الديني على أكبر عدد من الناس والقضاء على عقيدة الآخر وتصفيتها وهو أمر لا يمكن أن يتم إلا تحت مظلة نظام سياسي.
ولذلك تسعى السلطة الدينية في كل زمان ومكان إلى التحالف مع ممثِل القوة الإجرائية؛ لأن الديني لا يمكن أن يظهر في العلن «كقوة سياسية» لأن ذلك الظهور يفقده «مثاليته وسلميته» باعتبار السياسة هي «كثير من الكذب، كثير من الخداع، كثير من العنف».
في المقابل فإن السياسة تملك القوة الإجرائية لكنها لا تملك «سلطة الجذب» كما يمتلكها الديني؛ لأن السياسة أنظمة متغيرة في حين أن الديني ثابت وهذا الثبات يمكنه من امتلاك «سلطة مستدامة» ذات أصولية ثابتة ومتوارثة وتلك الاستدامة تحقق للديني مطلق الصدقية عند الجمهور، وبذلك يصبح ما تصدقه السلطة الدينية من أنظمة سياسية وتدعمه يصدقه الجمهور ويدعمونها، وهوما يعني أن السلطة الدينية تظل دوما هي مصدر شرعنّة أي نظام سياسي بفضل هيمنته على التأثير الجمعي وقوة تحشيده.
إن السلطة الدينية بمفردها لا يُمكن أن تُشكل نظاماً سياسياً، ولوعدنا إلى التاريخ لوجدنا أن أفشل الأنظمة السياسية هي تلك التي تشكّلت على يدّ رجال الدين، ولعل «السنة» التي حكم فيها «الإخوان المصريون» وفشلوا فيها فشلاً ذريعاً لهو دليل على عدم قدرة الديني على صناعة أي نظام سياسي مهما قوي تاريخه الوجودي، وأسباب هذا الفشل عديدة، المقام هنا لا يتسع لذكرها.
وعلاقة التداخل بين السياسي والديني ليست علاقة خاصة بالمجتمعات الرجعية بل هي موجودة حتى في أعرق المجتمعات علمانية مثل أمريكا.
في كتابه جرأة الأمل تطرق الرئيس السابق السيد باراك أوباما إلى علاقة السياسة بالدين، هذه العلاقة التي يرى أوباما أنها عادة ما تُستغل كعامل ضغط على الوجدان الشعبي، ومن المواقف التي ذكرها في هذا المجال، موقف المرشح المنافس له السيد «كيز» في انتخابات 2004 من استخدام عامل الدين لإضعاف أوباما شعبياً، يقول: «خذ على سبيل المثال خصمي الجمهوري السفير السابق الان كيز في انتخابات 2004 الذي استخدم حجة جديدة لاجتذاب الناخبين في الأيام الأخيرة من الحملة أعلن السيد كيز « أن المسيح ما كان ليصوت لمصلحة بارك أوباما لأنه قرر التصرف بطريقة لا يتخيل أحد أن المسيح سيتبعها،.. كانت حجته تسير على النحو التالي: أسُست أمريكا على مبدأين توأمين، وهبهما الله لها هما الحرية والمسيحية».
قد يبدو للوهلة الأولى أن «القرار الأمريكي بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل» هو قرار سياسي بامتياز لكن الواقع هو قرار في أصله اعتقاد ديني يدعمه القرار السياسي، من خلال حزب المحافظين بنسخه وأجياله المختلفة التي تعتنق عقيدة المسيحية الصهيونية التي تؤمن بالأفكار التوراتية، وقد استرسلت السيدة مادلين أولبرايت في كتابها الجبروت والجبار في توصيف علاقة المسألة الفلسطينية وإسرائيل والقرار السياسي الأمريكي في هذا الصدد وتداخلها بالمعتقدات الدينية الأمريكية التي تتوحد مع المعتقدات اليهودية التوراتية،كما استرسل السيد باراك في كتابه «جرأة الأمل» عن تداخل الديني والسياسي المتصاعد في أمريكا.
فقد كان -كما- يقول أوباما «جيم كارتر أول من أدخل مفردات المسيحية الإنجيلية في قاموس السياسة الوطنية الحديثة، إلا أن الحزب الجمهوري بتوكيده المتزايد على التراث التقليدي والنظام وقيم العائلة كان في أفضل موقع لجني ثمار اليقظة الإنجيلية سياسياً وحشد الإنجيليين ضد التزمت الليبرالي».