* القصيدة:
أبي.. كلّما كان يُؤمِض برقٌ
شمال المساء
يُعلّقني بيرقاً
في جنوب الغمامةْ..
***
ويهمس في مسمعي:
لااااااا تغادر مكانك
حتى يؤذّن جدُّكَ
من شرفة الغيب فجرا
وتتلو الحقول
على ساعديك الإقامةْ..
*****
أبي...
كلما نَطَقَ الرّعد
يبذر في سفح جفني
ثلاثين حبّة قمحٍ
ويغرس في سقف صدري غصنين
من عِزّةٍ وشهامةْ..
*****
ويوصي دموعيَ
ألا تكفَّ
ونبضيَ
ألا يجفَّ
ويربط في خصر عزمي
مع دعوتيه حزامهْ..
*****
ويصرخ بي... يااااابني
البلاد... الكرامة
البلاد... الكرامة
البلاد... الكرامةْ..
ا
ل
ك
ر
ا
م
ة
*****
ويرسم من عابق الطين
في جبهتي
للبلابل
والفقراء الذين يمرون
كل صباح على عتبات الحقول:
علامة..
*****
وأمي
تشق شغاف الفؤاد
إذا حل فصل الخريف
إلى زفرتين
وتجعل إحداهما فوق رأسي (ركيباً)
وإحداهما (بيدراً) شاسعاً
شرق (أم الكظامة)..
***
وتأمرني أن أصلّي وحيداً
إلى أن تَبِيْضَ على باب قلبي حمامة
***
وتنفث في روع صبري
فأحمل مِحراث جدّي
وألوي على زند صبري
حِزام أبي
وأجمع زوّادتي في (فليجتها)
ثم أركض
أركض
أركض
حتى أجاوز حلم المدار
وأنسج مابين
(هوكايدو)
و(شونشي)
من قبل يرتد طرف النهار (جَنَاباً)
وأحرثهُ بالمحبة
أبذُرُ في كل ثانية
في ثرى روحه
قُبُلاتِ الوداد
وأسقيه من نبع روحي
حتى يَرُدّ السلام
حتى يَرُدّ السلام
على كل من في الوجود سلامه..
***
وأرجع ما فوق رأسي من رحلة العمر
إلاّ بقايا عمامة..
***
وقد بلغ الشعر في مُهَج الكائنات
وفي مقلتيَّ
تماااااااامهْ..
*****
وضع الشاعر لقصيدته عنوان «حضرة جناب العالم» وترك لنا في الهامش تفسيراً لمفردة الجناب، وهي الأرض الزراعية التي يتم استصلاحها بجوار الأرض الزراعية. وذلك نقف أمام فرضيتين دلاليتين لهذه المفردة:
الأولى، وهي تلك التي طرحها الشاعر في هامشه، والثانية: الدلالة المتداولة لهذه المفردة حيث تستعمل بمعنى مقام ومكانة لا تمس.
إذن فقد دل العنوان على أن الشاعر يقف في حضرة جناب العالم، أي يقف في مقام رهبة وخشوع بين يدي هذا الجناب المنسوب للعالم. يعتمد الشاعر على البنية السردية في طرح هذه التجربة الشعرية، وعبر هذه البنية يسوق لنا تاريخ تكوينه الإنساني،والشعري على يد ذوات إنسانية تمثل جذوره وأرضه وتاريخه وقِيَمه، وهويته الشاعرة، وهذه الذوات هي - وفق ترتيب ذكرها في القصيدة: الأب، الجد، الأم...هذه الذوات الثلاث تتكفل بتكوين الذات الأنسانية والإبداعية للشاعر؛ مما يحرضه على غرس أرض «الجناب» وإخصابها؛ فتثمر حبا وخيرا وودادا، و...سلاماً للوجود... لكل الوجود... وكأن الشاعر في هذه القصيدة مبعوث سلام وحب، يحمل من جده، وأبيه، وأمه، وأرضه، للعالم كله، بل لسائر الوجود رسالة التسامح والسلام والحب...
يحملُ هذه الرسالة من قطعة أرض خضراء ذكية - هي الجناب - قطعة خضراء تشبعت بعرق أجداده ووصايا أبيه وزفرات أمه... حملت نداء الفجر بصوت جده، ووصايا الصبر من أمه...وبذور القمح والعزم والكرامة من أبيه، وكأن السلام هو الصلاة والقوة والكرامة والعزة والخير والنماء، وحين توجد هذه المخصبات يولد السلام، ولو من زاوية خضراء نائية وقف الشاعر في حضرتها وجعل لها مذاقاً مهيباً لا يخلو من جلال..
إن تأمل منظومة الأفعال في هذه القصيدة تبرز لنا القيمة الإنسانية لكل شخصية من الشخصيات الثلاث التي أسند لها الشاعر دور تكوينه وإعداده الروحي والشعري؛ فإذا تأملنا في الأفعال المنسوبة لشخصية «الأب» وجدناها أفعالاً تفاعلية (جدلية) مع حركة الكون ونبض الوجود؛ فالأب - كما يقول الشاعر: كلما يومض البرق (يعلقني بيرقا)، كلما نطق الرعد (يبذر سفح جفني)، (ويغرس سقف صدري غصنين من عزة وشهامة) و(يوصي دموعي ألا تكف / ونبضي ألا...)، و(يربط في خصر عزمي مع دعوتيه حزامه).
وهكذا يبدو وميض البرق منبثق عدة أفعال للأب، ويبدو نطق الرعد منبثق عدة أفعال أخرى؛ بما يبرز ذات الأب ذاتاً إنسانية متفاعلة مع حركة الحياة ودورة الكون الطبيعية؛ هذا التفاعل يغرسه الأب في ذات الشاعر، ويبذره فيه؛ فينتج عن هذا الغراس أن يكون الشاعر مبعوث حب وسلام للعالم...لكل الوجود. لقد غرس الأب غراس حب عالمي في تكوين ابنه؛ فأثمر غرسه ذاتاً تعشق العالم وتهديه المحبة والسلام والشعر وخضرة من حضرة الجناب...
**وندرك من خلال سلسلة الأفعال المنسوبة إلى «الأب» أنه قد تعهد - برعايته - من ذات الشاعر أربع زوايا من تكوينه هي: سفح جفنه، سقف صدره، نبضه، عزمه؛ ومن هنا يتردد حرف المد أربع مرات في نداء الأب:
«يااااا بني؛ وكأنه ينادي - منه - ويستدعي فيه هذه الزوايا الأربع... ويترك الأب إرثاً للشاعر يتمثل في إرث حِكَميّ، ووصية حب للوطن، والكون، وذلك في قوله: البلاد الكرامة (مكررة ثلاث مرات) وعند البحث عن سبب عدد مرات التكرار؛ نجد أن هذا العدد قد يشير إلى ثلاثة شروط لكرامة الوطن، هي:
1- العيش الكريم (متمثلاً في القمح والغرس والخير)
2- التقوى (رمز لها بالتزام أذان الفجر)
3- العزم (وقد شد عليه الجد بحزامه). لقد رسم الشاعر لذات أبيه ملامح الزارع النبيل، الذي يحمل البذور والخبرة والحكمة؛ ومن منطلق تكوين المزارع فإن لا يلقي وصاياه حروفاً؛ بل يبذرها بذراً؛ هكذا طرح مفردة الكرامة عبر التشكيل الطباعي في شكل عنقودي، وكأنها بذور لغرس جديد يستوطن التكوين؛ ومن خلال هذه الهيئة يبرز حرف الراء متميزاً في كلمة (الكرامة).
فإذا تابعنا مدى انتشار صوت الراء في القصيدة وجدناه في مفردات أساسية تشكل الدائرة الدلالية لهذه التجربة الشعرية، مثال ذلك: برق، بيرق، فجر، رعد، بذر، غرس، صبر، صدر، فقراء، زفرتين، ركيبا، بيدرا، مدار، حرث، روح، عمر، شعر. وهذه المفردات - فضلاً عن كونها ذات صلة بالذوات الإنسانية - والكونية - في هذه التجربة الشعرية - فإنها تبرز حيوية الأفعال ومدى التفاعل الجدلي بين أطراف التجربة، ومدى نشاطها الروحي.
ولا نستطيع تجاهل طبيعة صوت الراء؛ فهو صوت تكراري - يستوجب ارتطام اللسان بسقف الحنك - وهو مجهور - تهتز الأوتار الصوتية عند إخراجه؛ مما يمنح الإيحاء بالإصرار والعزم المنتشرين عبر المعجم الداخلي للقصيدة.
* تحمل صورة الجد مهابة وجلالاً؛ حيث ينسب إليه الشاعر شرف الأذان فجرا؛ فيحيط ملامحه بمناخ مهيب مستقى من جلال رسالته (تجذير الشاعر في أرض العقيدة)، كما أن الأذان مرتبط دلالياً في هذا الطرح ببدء الكفاح وغرس الخير.
* إن الجد ليس ذاتاً فردية في هذا الطرح؛ بل هو الجذور والعمق والتكوين... الهوية؛ ومن هنا يبدو وصية متكررة في خطاب كل من: الأب والأم (فالأب يوصيه ألا يغادر مكانه حتى يؤذن الجد فجراً والأم توصيه بالصلاة وحيداً).
وهكذا تلتقي الوصيتان في ذات الجد....
* إذا تأملنا الملامح التي طرحها الشاعر لشخصية الأم، والأفعال التي نسبها إليها، سنجد الأم ذاتاً تتوسط بين: الأب والجد، والأرض والوجود؛ فهي تمثل الصلة المشيمية التي تربط الشاعر بهذه الكيانات؛ كما أنّها (تنفث في روع صبره) فكأنها امتداد للأب الذي منحه العزم؛ كما أن نفثها يدفع الشاعر إلى حمل فأس جده، وهي (تأمره بالصلاة وحيداً حتى تبيض على باب قلبه حمامة) وهي بذلك تربطه بآذان الجد؛ وتسهم في خلق رسالة السلام التي يحملها الشاعر للوجود - والمرتبطة برمزية الحمام -وهي (تجمع زوادته في قماشتها أو فليجتها)، (وتشق شغاف الفؤاد إلى زفرتين يثمران بيدرا وركيبا) وهكذا تكون سلة خصب تثمر في حضرة جناب العالم.
إن ذات الشاعر تمتثل امتثالاً نبيلاً جليلاً لوصايا الذوات الثلاث- التي تمثل تكوينه وتراثه وجذوره - ويتجسد هذا الامتثال وهذا الإثمار في الأفعال التي تنسب للشاعر التي تبدو تجليات الوصايا؛ فهو يركض لينسج جناباً خصباً يحرثه (بالمحبة)، والـ(وداد) ويسقيه من نبع روحه...؛ وهكذا تمثلت ذات الشاعر الوصايا، وكانت تمرئياً خصباً للحكمة والأصالة والجذور...
يؤكد هذه الدلالة ويعمقها أسلوب التكرار - اللغوي - في هذا الموضع؛ حيث يكرر الشاعر فعل الركض في صيغة المضارعة ثلاث مرات (أركض) وكأنه يركض بإرث الوصايا التي حملها من الأب والجد والأم؛ فيكون عدد مرات التكرار معادلاً لعدد الذوات التي تمثل جذوره... وكأنه - في الوقت ذاته - يركض بثلاث قوى، هي البذر والعزم والتقوى... وفي كل حال يثمر ركض الشاعر عن مخاضين مهيبين: السلام والشعر، السلام لكل الوجود، الشعر الذي بلغ تمامه.
وحين نتأمل جملته الأخيرة : (بلغ الشعر تماااااااامه)؛ نتساءل:
أو كانت هذه الرحلة التي تعهده فيها أبوه رحلة تكوين الشعر،أم أن الشاعر يطرح تسوية دلالية - غير مباشرة - بين الشعر والكرامة، الشعر والسلام، الشعر والخصب،الشعر والجذور والتراث، الشعر وجناب العالم ؟!
اطمئن لهذه الفرضية الدلالية - على الأقل من تعمقي في قراءة شعر الشاعر ودراسته دراسة نقدية موسعة من قبل - فالشعر في طرحه دائماً يرقى إلى مصاف المعرفة والنماء والخير، وهو رسول السلام والمحبة في رؤيته الشعرية، وهو الهوية الجديرة بالإكبار. ولعل الشاعر حين بدأ قصيدته بشخصية الأب، وختمها – بالـ شعر - لعله - ترك لنا أن نفترض أن ذاتَ الأب مثّلت بدايته وأصلابه، بينما مثّل الشعر نسله وامتداده وخلوده، كما ترك لنا فرضية أخرى هي أن شعره – وهذه الجذور الممتدة إلى الأب والجد – هو هويّته، وأن شعره ينتمي - مثله - إلى الجذور ذاتها: الأب والجد والأم...
وأن شعره يانع مثل حضرة الجناب...
وأنّ هذا الشعرَ هو رسالته ومزرعته وأرضه....!
*****
أم الكظامة: اسم بئر في وادينا.
الفليجة: قطعة قماش بيضاء يرتديها النساء لتستر تفاصيل الجسم قبل أن تعرف (العبايات) حيث كن يا شاركن في جميع الأعمال بكل ثقة وعفة.
الجناب: أرض زراعية تستصلح بجانب المزرعة الرئيسية وتكون طويلة وضيقة.
(هوكايدو) و(شونشي) جزيرتان من أقصى إلى أقصى.
الركيب: المزرعة الكبيرة.
** **
بقلم/ د. كاميليا عبد الفتّاح - الأستاذ المساعد في تخصص الأدب والنقد - جامعة الباحة (سابقًا)