«آه لو كنت أطير، مثل عصفور صغير». كانت تلك مطلع أنشودة كنا نرددها في المدرسة، كانت ضمن مقرر الأناشيد والمحفوظات، في زمن أبيض جميل، كنا نسرح بخيالاتنا مع الأهزوجة وكلماتها، كنا نحلق خيالاً فوق السحاب ونرى أنفسنا نسابق الطيور وهي تسبح في الفضاء، كانت خيالاً وصروحاً من ذكريات جميلة، ما زالت عصية على النسيان.
اليوم أردد هذه الأهزوجة ولكن بأمنية أخرى، فأقول:- آه لو كنت مديراً، مثل عصفور صغير، فالإدارة دائماً ما أبحث عنها - كنزار قباني في بحثه عن حبيبته - أعيشها خيالاً، وحلماً، لا يصرفها عني إلا واقعي الوظيفي الذي لم يتغير منذ أكثر من عقدين من الزمان.
كانت وما زالت الإدارة بالنسبة لي ولأمثالي الطيبين فرصة للحضور المختلف، وليست مجرد سلطة تستدعي النزف أو العبث، كانت الإدارة وما زالت فرصة لإيجاد كثير من الحلول لكثير من المشكلات والمتاعب في المنظومات، ولم تكن وسيلة للظهور أو البعث من جديد.
مع بواكير تشكل وعي الوظيفي، أخذت عهدًا على نفسي أن أكون المخلص المحب لعمله، أتفانى في خدمة أهدافه، وأحاول أن أعيش رؤاه ورسائله لأنطلق منها، وإليها أعود.
كنت أعتقد أن المجتهد يأخذ نصيبه من التقدير والاهتمام، هكذا قيل لنا، ولكن الواقع المر صادر كثيراً من أدبيات ذلك الخطاب الأبيض الجميل، ليحل محله سوق سوداء للعبث، تقدم السيء على الجيد، وتستنبت الطالح وتجتث الصالح.
إنها بيئاتنا الوظيفية التي لا تقبل المختلف، وتعشق المخالف، لا تحب التغيير، وتعشق الجمود والركون والدعة.
إنها الغربة ومتلازماتها، شعورها ومشاعرها.
من صور الغربة في الوظيفة أن تأتي إلى عملك مبكرًا في وقتك ويستهجن الآخررون تصرفك هذا، إنها غربة المنضبطين فطوبى للغرباء!
من الغربة أن تظل في ركن قصي، مبتعدًا بإرادتك، مستبعداً بسلطة إدارية، تجعلك في نظر الجميع المخالف الذي لم ولن ينسجم مع واقعه الإداري ومتطلبات العيش فيه.
كوميديا سوداء تعيشها عندما تكون صاحب رأي، عندما تكون لك رؤية مختلفة عن الآخرين تضحك أحياناًً وتبكي في أحايين كثيرة جراء لحظات أصبحت فيها الأسر الأسير.
فأنت كمجتهد ومبدع أسير لنمطية لا تعترف إلا بسمعنا وأطعنا، وآسر لفئة قليلة ترى التعاطف في أعيونهم وهم لا يستطيعون فعل شيء سوى أن يقولوا بأسى:- لك الله.
اليوم قررت بعد أن فاتني قطار الاهتمام، من رعاة منظوماتي الإدارية، أن أؤسس مجتمعي الوظيفي الخاص، بالفعل رأيت في منزلي مكاناً مناسباً لممارسة هذا النزق، اشتريت مكتبًا بجميع مستلزماته، وأثثته بأثاث جيد، جعلت زوجتي مديرة لهذا المكتب، وأصبحت منعزلاً عن أصدقائي، عشت أجواء المديرين، فقربت إحدى بناتي كونها الأكثر طاعة، ولمحت في الأخرى تطلعات غريبة وطموحة، عكستها أسئلتها الجريئة المزعجة وتحليلاتها الرصينة، عندئذ قررت عدم السماح لها بالفهم، ومحاصرتها في مساحات ضيقة تضمن عدم استقرارها أو تفرغها للتفكير.
سننت العديد من الأنظمة في المنزل منها، أن النوم الساعة التاسعة مساء، وكنت أول من يكسر هذا النظام مع ابنتي الأكثر طاعة، وكنت أتغاضى عن تجاوزاتها وهناتها، وخصوصاً أنها كانت مصدراً معلوماتياً مهماً لا أستغني عنه، إضافة إلى أنها تجيد صنع الشاي الذي بت أفضله من يديها الصغيرتين.
ومع مرور الزمن أصبحت إمبراطورًا، وأصبح الجميع أمامي مجرد خدام، بقدر ما يعطونني من خدمات شخصية، بقدر ما أتنازل لهم عن كثير من قيم الوظيفة وواجباتها.
زوجتي تخافني كثيراً، ولست مقتنعاً بأدائها الوظيفي، ولكنني أستخدمها كغطاء يجعلني في نظر الآخرين أساعد الكبار والمعوزين وأصحاب الظروف الخاصة.
أصبت شيئاً من وهج السلطة الإدارية، وكنت أظنه يكفيني عناء البحث عن مكان أفضل في بيئتي العملية الأصيلة، ولكن ظهر العكس، فما إمارسه من تسلط في منزلي جعلني أبحث عن ذاتي في بيئتي الأكبر!.
هنا قررت قرارًا لا رجعة فيه، قررت أن أتغير ولكن إلى الأسواء بحسب السائد في تلك المنظومات العملية، بدأت أتقرب من مديري، وأثني على وسامته وهندامه، وما حباه الله من ذكاء ورؤية وروية، كذلك سخرت ملكاتي وحواسي الخمس، لأكون لأصحاب السعادة العين والأذن، حاولت اللحاق بمن سبقني في هذا المجال، ورأيت أن الحواس الخمس لا تكفي لأكون الورقة الرابحة في جيوب أصحاب السعادة، فابتعت حاسة سادسة من متقاعد عُرف عنه قربه من المديرين وقدرته على كسب ثقتهم إبان فترة عمله معهم.
اليوم أحيا حياة طيبة، فلا خصام ولا مشكلات، أنا حبيب الجميع ومستودع أسرارهم، أصبحت من أصحاب الحكمة، وصاحب مدرسة وتكية يأتيني الموظفون أفواجًا ليستفيدوا من خبراتي وطريقة حضوري.
تلك قصتي باختصار مع كرسي الإدارة الذي بلغته بعد رحلة بطوطية وبطولية تستحق أن تُدرس وتدرّس ويبقى السؤال مشرعًا ومشروعًا، ترى... كم واحد عاش هذه التجربة من أشباه أصحاب السعادة الذين كانوا لا شيء واليوم أصبحوا في منظوماتهم الإدارية كل شيء؟
** **
- علي المطوع