فكرة المُخَلّص الذي يدمر الأشرار ويملأ الأرض عدالة، ظهرت في وادي الرافدين قبل أحد عشر ألف عام، ولا زالت تطوق وعي البشر على هذا الكوكب.
الخلاص من الظلم هو سبب كل التحولات الكبرى والصغرى والمتوسطة في التاريخ، ولكن لا توجد محطة واحدة مضيئة في التاريخ صنعها شخص بمفرده! حتى الأنبياء عليهم السلام حققوا الانتصارات على قوى الشر بواسطة أنصارهم، لماذا إذن نحاصر وعينا في زنزانة انفرادية اسمها «المُخَلّص»؟
إنني لا أصدق أحياناً حواسي الخمس عندما أشاهد أو أسمع من يقول إن ماركس أو المهاتما غاندي أو عبد الناصر لم يمت! ... لقد ماتوا جميعاً وشبعوا موتاً، ولكن النزعة البشرية للخلاص من الظلم لم تمت، والماركسية والناصرية والغاندية وغيرها لم ولن تموت! إنها تؤجَّل إلى نهوض من النوم جديد فقط.
تحويل التاريخ من حركة اجتماعية إلى «مزاجيات» شخصية كان ولازال غلافاً كلسياً يمنع الوعي من التفقيس! ويجعله يتخبط بين ما هو شخصي وما هو اجتماعي! .. لقد فشل مشروع عبد الناصر ليس لأنه غير تاريخي أو غير محق، إنما لأننا جميعاً بما في ذلك عبد الناصر ذاته، اعتقدنا أن صفاته الشخصية الراقية كافية لوحدها «كتابة» التاريخ، ثم اكتشفنا بعد فوات الأوان أن التاريخ عمل جماعي، وأن الخونة الذين نصبهم عبد الناصر في المواقع القيادية هم من أجهضوا مشروعه، ثم جاء واحد منهم بعد موته ليقضي على المشروع نهائياً باسم «الناصرية».
فرحنا جميعاً بانقلاب القذافي في ليبيا، واعتقدنا أنه «المخلِّص» لهذا البلد العربي العريق والغني بشعبه وثرواته، وبعد أن دمّر القذافي «شبه الدولة» في ليبيا واختزل المؤسسات والسلطات في شخصه، انبرى الإعلام الغربي ليلقننا درساً في التاريخ ويقول: القذافي «مجنون».
ما معنى أن القذافي «مجنون»؟ ... السم المدسوس في هذه المقولة هو أولاً: أن التاريخ هو إرادة شخص! وثانياً: وهو الأهم أن رئيس دولة كالقذافي ليس مسئولاً عن تصرفاته! وبالذات ما يخدم المشروع الاستعماري، أي صناعة «اللادولة»!
الطامة الكبرى في عصرنا أن الإعلام الأمريكي يروّج أن ترامب «مجنون» أو «ليس ذي خبرة» أو «لا يعي» مصلحة أمريكا! ويتبعه الإعلام العالمي كله للأسف الشديد! .. ولكن ألا تعي شعوب العالم أن صفة «مجنون» أو «لا يفهم» قد وُصِفَ بها الرؤساء الأمريكان تباعاً منذ «ريغان»؟ وأن العالم كله –بفضل الإعلام الأميركي «النزيه»- كان خلال القرن العشرين ونيف يقول: أميركا «لا تعي» مصلحتها؟ أين الوعي الذي يدرك الخديعة؟ .. لماذا لا نتلقف مقولات الإعلام الأمريكي الممنوعة من الانتشار خارج أمريكا، والتي تقول: لا ديمقراطية في أمريكا! والحزبان الديمقراطي والجمهوري كذبة كبيرة! وأن ما يفعله ترامب هو ما تريده المافيا! وأن الخلاف بين مجموعتين في أمريكا هو: مجموعة تريد الحرب العالمية المباشرة على مبدأ (علي وعلى أعدائي)، ومجموعة تريد الحرب بالنيابة بواسطة شذاذ الآفاق حتى لو ذهبوا إلى الجحيم. ثم ينبري مثقفونا من جميع الأصقاع ومختلف الألوان ليكونوا أميركيين أكثر من الأمريكان ويقولوا: لا ... أمريكا قمة الديمقراطية ولا يوجد بها استبداد.
قد يبدو للوهلة الأولى أن الاستعباد والاستبداد هو عمل فردي، ولكن إذا لم يكن هناك جيش من أشباه البشر، يدمرون البشر والحجر والشجر ويلقنون الوعي الجمعي بأنها إرادة الله عز وجل، هل يستطيع شخص بمفرده أن يستبد؟
** **
- د. عادل العلي