إبراهيم عبدالله العمار
انظر لهذه التجربة الظريفة التي صنعها أستاذ في جامعة كورنيل في نيويورك: طلب من بعض المتطوعين أن يتأملوا لوحة فنية في إحدى القاعات ويقيّمونها، فيسجّل الشخص محاسنها ومعايبها في كراسته، وبجانبه شخص آخر، في ظاهره أنه مثله يقيّم اللوحة، ولكنه من أعوان الأستاذ، والمتطوع لا يعلم بهذا، وأثناء تسجيلهم لملاحظاتهم يغيب المتعاون برهة ثم يعود وفي يده علبتا مشروب غازي ويناول المتطوع إحديهما، ويخبره أن الأستاذ لم يمانع أن يشربا بعض المنعشات فاشترى تلك العلبة له. أما القسم الثاني من المتطوعين فإن المتعاون لا يشتري لهم المشروب الغازي. بعدها بقليل يُخرِج المتعاون من جيبه عدة بطاقات من سحب مسابقة، ويقول للمتطوع أن سعر الواحدة منها ربع دولار، وأنه لو اشترى أكبر عدد ممكن فسيكون شاكراً، فكانت النتيجة أن الذين اشترى لهم المشروب الغازي وافقوا على شراء ضعف العدد الذي اشتراه القسم الآخر والذي لم يشترِ لهم المتعاون علبة المشروب، ولم تؤثر مشاعرهم على ذلك، فبعضهم لاحقاً قال إنه لم يرتح للمتعاون إطلاقاً، وحتى هؤلاء وقعوا تحت تأثير مبدأ رد الجميل، فاشتروا عدداً كبيراً من تلك التذاكر ليكافئوا جميله.
هل عرفت ما حصل هنا؟ إنه مبدأ رد الجميل. إنه نفس المبدأ الذي يستخدمه الباعة عندما يهدونك قطعة شوكولا إذا دخلت محلهم. إنه مبدأ بالغ القوة وظل مع البشر منذ أن عرفوا الدنيا، واستخدمه الناس سابقاً كعملة آمنة يصلحون بها شؤون دنياهم. ولتعرف قوته فاعلم أنه في تجربة المشروب الغازي فإن سعر علبة المشروب ربع دولار، ولكن الذين اشتروا التذاكر اشتروا بمبالغ أكبر من هذا! نعم، إن مبدأ رد الجميل يمكن أن يُستغلّ بحيث يُؤخذ من الشخص من المال أكثر مما أُعطي، ومن أسباب ذلك أن شعور الدَين يثقل كاهل المرء، فنرغب التخلص منه بأي شكل، وإذا كان هذا يعني أننا نعطي من أحسن إلينا أكثر مما أعطانا فليكن!
مبدأ رد الجميل قديم جداً ولم يخلُ منه مجتمع بشري، ومن منطلقاته الحث على العلاقات التعاونية والتبادلية، فلو أتى فارس مسلّح قبل آلاف السنين وحمى أغناماً لرجل آخر لا يعرفه من الذئاب فإن الراعي عندما يعود سيشعر بالدَين على عاتقه، وسيهب للفارس إحدى نعاجه، ومن يمتنع عن هذا يضع نفسه في موضع خطر مستقبلاً، فماذا سيصنع لو حصل موقف كهذا أُخرى؟ حينها يأتي العامل الآخر الذي يرسّخ مبدأ رد الجميل، وهو السمعة، فمن كانت سمعته أنه محب لذاته يأخذ ولا يعطي فإن الناس تزدريه، وحفاظاً على السمعة فإن هذا يزيد دَين الجميل ثقلاً ويرغم الشخص على رده وإن زاد في المكافأة.
هل تريد النجاة؟ أساس هذا المبدأ هو القبول نفسه. قبول الهدية يضعنا تحت رحمة هذا العُرف.