د. حسن بن فهد الهويمل
عَيْنَانِ نَضَّاخَتَان بالدمع السخي، كما عيني [المتنبي] اللتين شَرِقَ بِدَمْعِهما. حين لم يدع له صِدْقُ الحدثِ الصادم أمَلاً.
واحدة على أمتي التي ألقتها الفتن في مكان سحيق، ولم يتداركها أحد، كما تدارك المصلحون [عبساً]، و[ذيبانا].
والأخرى على ابنتي [أم سليمان] التي انتُزِعَتْ من بين يدي، كما يُنْتزع القلبُ عنوة من قفصه.
في هذا الزمن العصيب تتعطل لغة الكلام، ولا يجد المكلوم لساناً ينطق، ولا قلماً يكتب، لتبقى لغة المشاعر أفصح من لغة المحابر.
لا أقول وسط ريح المصائب العاصف إلا ما يرضي ربنا: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}. لعلي أظفر [بصلوات الله] و[رحمته]، و[هدايته]: و{ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}.
- وهل بعد هذا الوعد الصادق من نعمةٍ يتطلع إليها مضطر مثلي؟.
لقد فاجأ ابنتي المرض العضال، قبل عام، ونيف. وهي في أوج شبابها، وصحتها، وسعادتها بين أطفالها الستة، وزوجها الذي يمثل [أبي زرع] مع [أم زرع].
فانقلبت حياتُنا معه إلى خوف، وترقب، وسَعْي دؤوب لإيقاف الخلايا السرطانية التي تسابق أمهر الأطباء، وأرقى الأجهزة، وأكثر الإمكانيات: دقة، وفاعلية.
لقد وجدت في [بلدي] ما يُغْنِي عن المشافي في أرقى دول العالم. ووجدت من [قادة بلادي] دعماً لا حدود له.
هُيِّئت للشعب كافةُ الإمكانيات في [الداخل]، و[الخارج]، ولم يبق أمامنا إلا الإيمان بأن قضاءَ الله نافذ: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا}.
ما يؤلمنا، ويسْعدنا في آن، ونحن نعيش فترة المرض الموجعة أن احتمال الأسرة دون احتمال المريضة، التي تُفيض علينا من إيمانها، وقبولها، ورضاها بقضاء الله، وقدره.
وما كانت دموعها تجري إلا حين يُقبل أطفالها عليها، وكأنهم يغالبون المرض، وينتشلونها من بين براثنه. ولكنه كان الأغلب.
لم تيأس، ولم تقنط، لقد تصدت للمرض بثلاث جبهات:-
- [الإيمان] الراسخ بأن كل شيء بقضاء.
- و[تفويض] الأمر إلى الله، بعد الأخذ بالأسباب المشروعة من علاج، هو أرقى ما توصلت إليه الإنسانية.
- و[شفاء الصدور] بالقراءة، وبالدعوات التي يلهج بها كل محب في ساعات الإجابة، وأمكنة القداسة.
لقد كانت حالةُ المرض مرحلةً عصيبة، نكتم فيها أحزاننا، ونكفكف بها دموعنا، ونحتمل فيها آلامنا. وحالنا كما يقول الشاعر الشعبي:
[أضْحَك مع اللي ضحك، والهم طاويني].
إنها هموم لا يخفف من وطأتها إلا الإيمان بأن الله لم يفرط في هذا الكون من شيء. {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ}، وكل شيء عنده بمقدار، ومن عرف الله حق المعرفة هانت مصائبه.
لقد وَدَّعْتُ أبواي. وبكيتُ على من رحل من أقاربَ، وأصدقاءَ، وزملاءَ ما شاء الله لي أن أبكي. وظننت أن الألمَ، والحزنَ دائمان.
ولكن نعمة النِّسْيان نثرت على الجراح بلاسمها، فكانوا كأن لم يكونوا، وأصبح الحزن، والألم ذكرى أليمة، تهفوا كالطيف. حين تمر بنا ذكرى أحدهم.
[أحمد حسن الزيات] الذي فُجِع بفقد وحيده في طفولته، وهو في السبعين من عمره، ظن مثلي أنه لن يفيق من الألم. ولكنه عاد إلى الحياة السوية، يمارسها بشكل طبيعي. وكأن شيئاً لم يكن.
عجبي من [أطفالها] الذين شَغَلوها في سكرات الموت، وستشغلهم فيما بقي لهم من حياة، يسرحون، ويمرحون، وكأن مجالس العزاء حفلات عرس.
للأمهات مكانة لا يسدها أحد، كائناً من كان، فعاطفتها الجياشة، ولمساتها الحانية، ومشاعرها الدفاقة، تبعث الدفء، والحنان، وتوفر أجْواءً ملائمة للحياة السعيدة، وفَقْدُها ينزع معه قِيَماً، لا يوفِّرها المال، ولا يجلبها حنان من سواها.
إن للأم نفحات تتبادلها مع أطفالها، كالطاقة التي لا تُرى، وكالروح التي لا تُعْلَم، إنها أجواء يشعر بها الأبناء وحدهم. وكلنا أطفال ما بقيت أمهاتنا.
وحين أراهم بين أيدي الجدات، والعمات، والخالات والخادمات أشعر أنهم كمن يتنفس على الأجهزة، وينبض على الدواعم، ويهدأ على المسكنات.
لحظتها أحس بألم الفراق، إذ كلما رأيتهم، رأيت مشاعرها، تخفق من حولهم، ولكنها لا تصل إليهم.
ومع كل ما نعانيه فإن للمصائب نِعَماً، لا يعلمها إلا من تجاوزها صابراً، محتسباً.
إنها غسيلٌ بالماء، والثلج، والبرد لأدران الذنوب، وصقلٌ للإنسانية، وتذكرٌ للنعم التي ألفناها، وتصورنا أنَّنا أوتيناها على علم منا، نتقلب فيها، ولا نعرف قيمتها، حتى تزول.
لا بد من الصَّعق، ليفيق الغافلون، ويعرفوا أن هناك مُنْعماً لا تعد نعمه: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا }.
غفر الله لك [أم سليمان] وأباحك، وعفا عنك، وجعل في عقبك من يحفظ ذكرك الجميل، ويمتثل أخلاقك الحميدة، وبرك الصادق.
وإذ عفوت عنك، وأبحتك من تقصير لم تتعمديه، وغفلة لم تديميها. وأنا ضعيف أمام مَنْ وسعت رحمته كل شيء، فإن الله أجدر بالعفو، والمغفرة.
في غمرة الأحزان أبتهل إلى الله بأن يَجْزِي من شَدَّ أزرنا، وشاركنا مآسينا، أثناء المرض، وبعد الممات ما يجزي عباده الصالحين.
وفي مقدمتهم والد الجميع [خادم الحرمين الشريفين] الذي كان معنا، كما هو مع الكافة، حين سهَّل لنا فرصة العلاج في الداخل، والخارج، وحين تفَضَّل بمواساتنا معزياً، كأي فرد من أبناء الوطن، و[ولي عهده الأمين] على تعزيته، ومواساته. وما ذلك التواصل، والدعم بغريب على قادة البلاد.
والشكر موصول لأصحاب السمو الملكي الأمراء، والمعالي الوزراء، وأصحاب الفضيلة العلماء، وزملاء الحرف من أدباء، ومفكرين، وإعلاميين.
لقد شدوا أزرنا، وهَوَّنوا مصائبنا، وأشعرونا بأخوة الإسلام التي وصفها المصطفى بالجسد الواحد [إذ اشْتكَى مِنه عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهرِ والحُمَّى].
و: [جَزَى اللهُ الشَّدَائِدَ كُلَّ خَيْرٍ]. إنها مِجَسَّاتُ المعادن، ومسابير القيم.
وكيف يتأتى الجزع من قضاء الله، وقدره، وخير من وطئ الثرى مات أبوه، وهو حمل. وماتت أمه، بـ [الأبواء]، وهي على سفر، وهو طفل. حتى لقد أبى أن يبرح قبرها إلا بقوة [أم أيمن] حاضنته. وماتت زوجته ، وهو محاصر في [شعب أبي طالب]، يأكل ورق الشجر. وتوفي عمه الذي كان يدفع عنه أذى قريش.
كان ذلك قبل ثلاث سنوات من هجرته، وهو عام الحزن. وماتت بناته الثلاث، وابنه [إبراهيم] في حياته، وفي فترات متقاربة. ولحق بالرفيق الأعلى في عنفوان كهولته. ولم يخلفه من الأبناء إلا [فاطمة] التي لحقت به بعد ستة أشهر من وفاته.
إنه قُدْوتنا في المصائب، والصبر، والمصابرة، والاحتساب. ومن رضي فله الرضى، ومن سخط فعليه السخط.
لقد فارقتِنا أيتها الغالية بجسمك، وتركتِ خيالك متجسداً في أطفالك. فارقتِ أبوين مكلومين، وزوجاً فرغ لك، حتى واراكِ في الثرى، وإخوة وأخوات يستقرئون ملامحك فيهم. ويستعيدون بهم ذكريات طفولتك.
فلتهنئي عند أرحم الراحمين، ولنهنأ نحن بفلذات كبدك، كلما حنّت أفئدتنا إليك.
ولتذهبي راضية مرضية {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}، {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}.