عبدالعزيز السماري
من الواضح أننا نسابق الزمن، وننتقل بوتيرة متسارعة في بعض الاتجاهات، فالعالم يتغير من حولنا بسرعة الصاروخ، وإذا لم نواكب جلّ متغيراته قد نعاني في بعض القطاعات، فالتطور الذي حصل خلال الثلاثين سنة الماضية في العالم يعادل ما حدث خلال قرنين من الزمان قبلها.
ثورات الطاقة البديلة والاتصالات والإدارة والاقتصاد والتشريعات وحقوق الملكية لا تتوقف عن التطور المستمر، فالعالم يتجه إلى أن يكون قرية عالمية، يستطيع من خلالها الإنسان أن يتسوق من منزله، وأن يتعلم ويعمل من خلال شاشته الصغيرة، وهو ما يحصل هذه الأيام، فالأسواق العالمية أصبحت قريبة من الأبواب، بينما تختفي الأساليب التقليدية.
مواكبة هذه المتغيرات تحتاج إلى إدارات مختلفة وأيضاً إلى تشريعات متطورة، ولهذا السبب لا بد من التفكير من خلال المستقبل، وأن ننفض الغبار عن العقول التي اعتادت الجمود والكمال، ولكن المطمئن أن تطورات لافتة للنظر في الوطن الغالي قد تحققت على أرض الواقع، فقد اتسعت دوائر التعليم والتقنية والخدمات والاقتصاد، وتحركت الفعاليات في المجتمع إلى مناطق أكثر هدوءاً ومتعة.
لكن الحراك الأهم في قفزات التغيير الأكبر ما زالت تنتظر الحركة الأهم، فالقانون ما زال يخضع في بعض من الأمور للشفوية والاجتهادات الشخصية في بعض الأمور، وإذا لم نخطو الخطوة الأهم نحو تحويل الشفوية إلى قانون مكتوب، فيما يُطلق عليه بتقنين الأحكام إن صح التعبير، سنعاني من بطء الإجراءات القضائية واختلاف وتناقض أحكامها حين نصل إلى المستقبل.
من إشكاليات العقل المسلم تداخل مفاهيم الفقه مع القانون، وهو من أهم أسباب تناقض وتضاد بعض الأحكام في مرجعية الاجتهادات الفقهية التي تم تدوينها من قبل الفقهاء والمجتهدين خلال القرون الماضية، وتم التعامل معها على أنها قانون مطلق، بينما ذلك غير صحيح. فهي قد تمثل بعض المبادئ التي تنطلق منها أحكام القانون.
فالقانون المكتوب يحدد في مواد لا لبس فيه ولا اجتهاد حقوق الأفراد وواجباتِهم، ويضع الجزاء المناسب في حال مخالفة تلك القواعد والأُسس، ويُطبق الجزاء من قِبل الحكومة، حيث تتغير القواعد القانونية باستمرار؛ وذلك تبعاً للتطورات والتغيرات التي تحدُث في المجتمع، وفي المجتمعات المتطورة يأتي في نص القانون أساليب لتعديل القوانين غير عادلة؛ وذلك لأن العدالة من مبادئ القانون الأساسية، نحن أيضاً في حاجة ملحة لفتح باب الثابت والمتحول، على أن يقود هذه التطوير علماء، يملكون القدرة على تطوير بعض الأحكام التي من الممكن أن تخضع إلى منهج التطور والتغيير، ولو راجعنا مسيرتنا خلال السبع عقود الماضية لاكتشفنا كماً هائلاً من الأحكام الفقهية التي تغيرت رغماً من الإصرار عليها.
لا بد أن نسبق الأحداث ونقود التغير بدلاً من أن يكون التغيير القسري هو القائد في مقدمة العربة، وهو ما كان سبباً لبعض الاختلافات التي أخرت كثيراً مسيرات التنمية في الماضي، كان من أهمها الموقف من البنوك والاقتصاد، وقد كسب الاقتصاد بفلسفته الحديثة المعركة، وخسرت الأصوات الرافضة له، وكان خيارهم الوحيد أن يلتحقوا بالركب ولو كانوا متأخرين.
المرحلة المقبلة تقودها اقتصاديات مختلفة وثقافة متقدمة، وتفتح الأبواب لقدوم المستثمرين والسياح والتقنيات الحديثة، وهو ما سيجعل من القضاء والقانون أقرب إلى أن يكون لغة عالمية، ويستدعي ذلك على وجه الضرورة دفع مشروع تطوير القضاء إلى الأمام، وقد كشفت الحملة ضد الفساد بعض جوانب فساد بعض رجال القضاة.
كان من أهم أسبابها مرجعية كتب الفقه المكتوبة من مئات السنين، واستغلال النفوذ والسلطة والشرعية، وكانت نتيجة ذلك ضياع ثروات وسرقة أراضٍ بمساحات شاسعة، وكشفت ثروات بعضهم حجم التواطؤ واستغلال النفوذ، وكان من أهم أسباب ذلك الخروج عن خط النزاهة تلك الهالة المقدسة التي يعتقد القاضي بها، بينما في حقيقة الأمر هو ممثل لولي الأمر من أجل تحقيق العدالة في المجتمع.
لا يمكن أن نصل إلى المستقبل بدون تطوير مدني لمنظومة العدل، فهي الركن الأهم في رؤية المستقبل التي تبشر بدخول زمن العالم الحديث من أكبر أبوابه، ويحتاج الأمر إلى إستراتيجية وكفاءات متطورة من أجل سد الثغرة التي تتسع بين المجتمع ومنظومات التقنين والأنظمة.
التشريعات الحديثة وتطوير آليات التقاضي هما القلب النابض في الوطن الحديث، وإن تخلفتا عن الركب، سنتوقف عن اللحاق بالآخرين، لكن أملي لا حدود له في القيادة الحكيمة، في أن تحقق للوطن قفزته الأهم في مجال القضاء وتقنين الأنظمة والتشريعات مع مراعاة جدلية الثابت والتحول في الأحكام الفقهية، والله ولي التوفيق.