إن من اللازم في الدول العربية أن تتم عملية كبيرة لإعادة صياغة دور الدولة، بحيث تركّز على التنمية البشرية.
ذلك لأنّ المعلومات والمعرفة لا تعترفان بحدود سياسية سيادية للدولة، فالسمة الأساسية للاقتصاد الدولي المعاصر هي دولنة الاقتصاد، أي أنه أصبح من الصعب ترسيم حدود الاقتصاد الوطني فهناك تشابك هائل بين الاقتصاد، خاصة ومعظم السلع المركبة تنتج مجزأة في مناطق شتى.
ويتوازى مع هذه ما أطلق عليه عولمة الأسواق التي أصبحت متشابكة إلى حد كبير.
لقد كان آدم سميث يؤمن بأن العادات التي أنشأتها الرأسمالية سوف تنتشر إلى بقاع الأرض بسبب تفوقها في إيجاد ثروة الأمم.
وكان كارك ماركس يؤمن بأن الرأسمالية سوف توحّد العالم في سوق واحد كبير، بعد أن تدك السلع المتداولة في التجارة الدولية.
وقد تبعهما في هذا الإيمان واليقين مئات بل وآلاف من أساتذة الاقتصاد وأنصار وتلاميذ العلوم الاجتماعية طوال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.
وصار هؤلاء يمثلون تياراً عريضاً في الفكر السياسي والاجتماعي، وذلك بغض النظر عن موقفهم من الرأسمالية.
فقد صارت فكرة أن الرأسمالية قادرة على التوحيد الاقتصادي للعالم كله، ليس مجرد نظرة علمية، وإنما أصبحت نوعاً من الاعتقاد التنبئي بما يجعلها لدى الكثيرين في صف واحد مع اليقين.
بَيْدَ أنه حتى أنصار مدرسة سوق واحد حتمي في كوكب الأرض، بتأثير وضغط الرأسمالية لم يدر بخيالهم المدى المذهل الذي تتحقق به تنبؤاتهم ونحن في أوائل القرن الواحد والعشرين. فالسلعة صارت لها قوة عجيبة وقدرة فريدة على النفاذ عبر الحدود، واختراق الأسوار، والانتشار حتى في الثقوب الصغيرة.
ومن الناحية العلمية لا نستطيع أن نتحدث عن كوكب اقتصادي أرضي واحد بعد، فلا يزال هناك تعدد في النظم الاقتصادية، حتى بعد انهيار الاشتراكية كنظام منافس ومناقض للرأسمالية.
فهناك تكتلات تتصارع حول الامتيازات داخل وخارج نطاقاتها السياسية والاقتصادية بوسائل لا يرضى عنها أساتذة الاقتصاد الرأسمالي.
وهناك حدود كثيرة بين الأمم والأقاليم والثقافات تجزئ الاقتصاد العالمي وتشوّش كثيراً صورة توحّده.
فعلى المستوى الاقتصادي هناك عولمة أو كوكبة للسلع، ولكن هناك عملية موازنة لإعادة إنتاج الفقر والثروة وهو ما يترتب عليه تضاعف الحرمان في مناطق كثيرة من العالم.
وعلى المستوى الاتصالي، أدت ثورة التقنية المعاصرة إلى جعل العالم قرية اتصالية صغيرة.
وعلى المستوى السياسي، يتحدث بعض السياسيين عن نظام عالمي جديد.
في ظل هذا كله، لا يمكن أن تكون الكوكبة الاقتصادية عملية إيجابية، بل هي بتأثير الرأسمالية عملية حافلة بالتوترات والتناقضات.
من هذا المنطلق، يمكننا أن نرى عملية توسع مجال الحركة للموارد الاقتصادية المادية، والتي تؤدي إلى تنميط متزايد لشروط المبادلات الدولية أي حركة السلع، التجارة السلعية، وحركة التقنية، وحركة رأس المال، أي تجارة الائتمان الدولي.
يقول د.محيي مسعد في كتابه «ظاهرة العولمة»: لقد خلط الاقتصاديون بين الوطنية الاقتصادية وفكرة أفول النزعات الوطنية، مما أدى بهم إلى التنبؤ بنهاية عصر المدرسة الوطنية عموماً، وفي مجال الاقتصاد بصفة خاصة. وبدت لهم الكوكبة الاقتصادية نقيضاً للوطنية الاقتصادية على كل المستويات بالنسبة لكل الأمم والشعوب.
والواقع أن نبوءة اضمحلال الوطنية قد ظهرت منذ بداية الخمسينيات. ومع ذلك فالظاهرة الواضحة على نحو متزايد هي التأكيد المضاعف على الوطنية وعلى سلطة الدولة الوطنية وسيادتها.
لقد ارتبطت الوطنية الاقتصادية في الماضي باستخدام الأدوات الإدارية والسياسية لتحقيق المصالح الاقتصادية الوطنية. وأهم هذه الأدوات هي سياسة لحماية التجارية، وضمان السيادة الوطنية على الثروات الطبيعية، والإجراءات التقليدية الخاصة بالاستثمارات الأجنبية ونقل التقنية.
إنه من غير الممكن توظيف هذه الأدوات والإجراءات التي مثلت الشكل الأساسي للوطنية الاقتصادية في عقدي الستينيات والسبعينيات، إلا إذا رغبت الدولة في عزل نفسها عن الاقتصاد العالمي، وهو أمر ثبت أنه يضر أكثر مما ينفع.
إن الوطنية الاقتصادية يمكن أن تضمحل في الظروف الجديدة للنظام العالمي، وخصوصاً جانبه الاقتصادي، إلا إذا استطاعت الأمم والدول الوطنية أن توجد أشكالاً جديدة لتعظيم مصالحها الاقتصادية. وهذا هو التحدي الذي يواجه العالم الثالث عموماً، والوطن العربي خاصة.
فجوهر الوطنية الاقتصادية يمكن أن يستمر حتى في الطور الجديد لتطور الاقتصاد الكوكبي المعولم.
ولكن: كيف تنجح الأمم، وخصوصاً عالمنا العربي والإسلامي في تحسين موقعها التوزيعي في إطار عملية العولمة الاقتصادية؟!.
إن جوهر المنافسة التوزيعية هو التسابق حول الحصول على فرص أفضل للنمو الاقتصادي والقلب المحرّك لفرص النمو الحقيقي للاقتصاد الوطني هو البشر من ناحية، والتقنية من ناحية أخرى.
ومن ثم فينبغي وضع استراتيجيات نمو وتطور جدية في العالم العربي، ترتكزان أساساً على مفهوم التنمية البشرية، فالفوارق بين تنافسية وإنتاجية الأمم ومعدلات تطورها تتفق مع الفوارق في المستويات المتحققة للتعليم والصحة وتدريب وتنظيم القوى العاملة.
إن الوطن العربي يحتاج بصورة حاسمة من أجل تأمين مستقبله الاقتصادي والسياسي إلى التركيز على التنمية البشرية.
حيث صارت معظم الدول العربية، وخصوصاً الأقل غنى، من بين أقل دول العالم إنجازاً في مؤشرات التعليم والصحة والحقوق الإنسانية للسكان، كما يظهر بوضوح من تقارير التنمية البشرية السنوية الدولية.