سهام القحطاني
«التاريخ ليس -دائما- رجلا»
ليست عهد التميمي الصبية الشقراء التي ولدت وترعرعت في عائلة نضالية حتى النخاع، أول امرأة فلسطينية أو عربية تؤسس موقفا تاريخيا ضد الظلم والطغيان ولن تكون الأخيرة، فقد سبقتها مناضلات فلسطينيات أصبحت أسماؤهن علامات تاريخية في ذاكرة الفلسطينيين والعرب منذ الشهيدة شادية أبو غزالة و الفدائية زكية شموط و الشهيدة دلال المغربي، والشهيدة ريم الرياشي وليلى خالد التي خطفت الطائرة الإسرائيلية عام 1969م، و الشاعرة فدوى طوقان، ورسامة الكاريكاتير أمية جحا و خلود الفقيه و غيرهن حتى عهد التميمي.
«فكل امرأة فلسطينية هي اسطورة تستحق كل التسميات والاوصاف بوصفها شريكة النضال الفلسطيني فهي ام الاسير والشهيد والجريح وهي المرابطة على الثرى كما شجر الزيتون». -كما قالت خلود الفقيه-
فتأسيس المرأة العربية لموقف تاريخي هي فكرة راسخة و عريقة في ذاكرة التاريخ ما قبل الإسلام و في ظل الإسلام و حتى يومنا الحالي، وهي ذاكرة رغم كل محاولات تقزيمها و تهميشها و تجاهلها و وأدها باسم الدين تارة و السلطة الذكورية تارات التي تتحكم في حركة التاريخ و تفسيره، لن تموت أو تتوارى ما دامت عزيمة المرأة العربية حية و متجددة و قيمتها بأهمية نضالها راسخة بالفطرة و التوارث.
وإذا عدّنا للتاريخ العربي و الإسلامي و الحديث سنجد الكثير من الأسماء النسائية التي أسهمت في تأسيس الكثير من المواقف و الانجازات التاريخية و رسمت بصمتها الخاصة في سلسلة ذاكرة المقاومة و النضال و البطولات و التضحيات في سبيل مساندة عقيدتها و قضية شعبها.
وتأسيس الموقف و الانجاز التاريخي الذي صنعته المرأة العربية لا يقتصر على الجانب البطولي بالمفهوم المادي،بل امتدّ إلى الجانب البطولي في صياغته الحضارية -التعليم و الثقافة و الفن-.
إن القيمة لا تتشكل فقط من أهمية الفعل بل و أيضا من طبيعة الظرف؛إذ يظل تحدي ذلك الظرف إنجازا و قيمة في ذاته.
وهو ما يجعل تأسيس ذلك الموقف بالنسبة للمرأة العربية إنجازا فوق انجاز؛ بسبب الرؤية المتطرفة نحو المرأة العربية التي كانت تعاني و مازالت من اعتقادات متخلفة قيدت قدرتها و قيمتها و دورها.
لكن المرأة العربية كانت و ماتزال تناضل لتغير هذه الرؤية بالقوة الانجاز تارة أو الحتمية النهضوية تارة أخرى ،لكن صناعة الدور التاريخي و تأسيسه لم يكن سهلا أبدا سواء للمرأة العربية أو الغربية.
لم تكن المرأة فيما يتعلق بتأسيسها للموقف التاريخي تابعة للرجل بل موازية له و أحيانا مستقلة عنه، وكثيرا ما تكون محفّزة للرجل و ملهمة له لتحقيق ذلك الإنجاز و الموقف التاريخي.
كانت «هما خاتون» أم السلطان محمد الفاتح تأخذه كل يوم وهو طفل صغير وقت صلاة الفجر لتُريه أسوار القسطنطينية و تقول: أنت يا محمد ستفتح هذه الأسوار، فيرد عليها الطفل و يقول:كيف يا أمي أفتح هذه المدينة الكبيرة؟ فتقول له بالقرآن و السلطان و السلاح وحب الناس، هكذا صنعت تلك المرأة عقيدة ابنها النضالية التي ادخلته التاريخ.
وفي جميع الحالات كانت المرأة و ما تزال هي صانعة القيمة و المفهوم والتاريخ.
وقبل هما خاتون عدد كبير من النساء اللائي غيّرن التاريخ أو أضفن قيما و مفاهيم وسعت مساحات التاريخ و رفعت سقف انجازاته.
فقد قادت بلقيس شعبها إلى الهداية فاستحقت الخلود التاريخي، كما رسمت زنوبيا قيمة المقاومة لتقود شعبها إلى الحرية و التمرد على الطغيان و الديكتاتورية.
و في ظل الإسلام كانت السيدة «خديجة بين خويلد» رضي الله عنها الزوجة الأولى «للرسول الكريم محمد» أول من دخل الإسلام و صدّق بدعوته، وبذلت عقيدتها و مالها لمساندته و مساندة دعوته،و الوقوف أمام طغاة و كفّار قريش، لتثبت للتاريخ أن قيمة صناعة الموقف التاريخي لا علاقة له بالجنس.
أما السيدة «عائشة بين أبي بكر الصديق» -رضي الله عنهما- فقد استطاعت أن تؤسس مفهوما «للريادة الفكرية» التي تقودها المرأة في ظل حشود من الصحابة الذين اعترفوا لها بتلك الريادة، فقد كانت طبيعتهم نظيفة و مستقيمة، وكيف لا تكون كذلك وهم أصحاب رسول الإنسانية و العدل و المساواة ،الرسول الكريم الذي احتفى بالخنساء قبل الإسلام و بعد إسلامها، احتفاء أسس لمفهوم أن «صوت المرأة و فكرها قيمة داعمة للحق و ندا لصوت الرجل و فكره» و ليس كما أشاع جهلة الدين بأن صوتها عورة وكلماتها فتنة و فكرها حرام.
تلك الريادة الفكرية التي مهدت لصناعة دور تاريخي لغيرها من المسلمات بداية من السيدة سكينة بنت الحسين التي أسهمت في تأسيس منظومة نقدية و أدبية ترعرع في ظلها رواد النقد العربي القديم، مرورا بولادة بنت المستكفي وصولا إلى مي زيادة و بنت الشاطئ.
كما أسهمت المرأة العربية و الإسلامية في تأسيس موقف حضاري من خلال إيمانها بقيمة العلم ونشره، فكثير منّا لا يعلم أن أول جامعة في التاريخ الإسلامي بالمفهوم العالمي أسستها امرأة هي «فاطمة الفهرية» التي أسست جامعة القرويين في فاس 85م، التي أخرجت أعظم علماء المسلمين و غير المسلمين في حقبتها و الحقب التي تلتها،و في ذات المجال فقد أسست الأميرة «فاطمة بنت الخديوي إسماعيل» أعرق جامعة في الوطن العربي والشرق الأوسط التي تخرج منها رواد العلم و الأدب و الثقافة في العصر الحديث و هي جامعة القاهرة.
أما»الملكة عفت آل ثنيان» زوجة الملك الشهيد فيصل بن عبد العزيز رحمه الله، فقد قادت ريادة تعليم البنات في السعودية في تحد لكل الرؤى المتطرفة التي كانت تقرن تعليم المرأة بالفتنة و فساد الأمة،و بذلك استطاعت أن تؤسس موقفا تاريخيا غيرت بموجبه تاريخ السعودية، هذا الموقف الذي يعتبر الأعظم بعد موقف الأميرة «موضي» زوجة الإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى التي كانت نصيحتها للإمام محمد بن سعود بمساندة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب النصيحة الذهبية التي غيّرت تاريخ شبه الجزيرة العربية.
وغيرهما الكثير من النساء السعوديات اللائي قدن الريادة في كثير من المجالات وما يزال المستقبل مفتوحا لأخريات سيقدن الريادة في ظل حكومة رشيدة واعية برعاية خادم الحرمين الشريفين سلمان بن عبدالعزيز و ولي عهده رجل الرؤية و الإصلاح محمد بن سلمان -حفظهما الله- رعاية آمنت بأهمية المرأة في تأسيس موقف تاريخي صانع للحضارة والإنجاز.
هذه بعض الإضاءات على التمثيل التاريخي الذي صنعته المرأة العربية و المسلمة التي تختبئ في ذاكرة التاريخ قصرا بفعل فاعل في مجتمع لايؤمن إلا بحق الرجل في الإشهار و الترويج التاريخيين.
إن المرأة العربية و المسلمة تمتلك القدرة على تأسيس موقف تاريخي و صناعة التغير و الإنجاز، وهي قدرة لا يمكن لأحد حجزها أو اقتصاصها، فلا يستطيع أحد أن يحجب الشمس.
فتحية لكل امرأة تناضل من أجل حريتها و حرية غيرها.