(بقشة الفرقنا) رواية تحكي معاناة فئة من المقيمين بين أظهرنا إقامة غير نظامية فهم في خوف دائم من سيارات الشرطة التي تتعقب المخالفين. لكن الترحيل لا يقلقهم كثيرا فهم لا يعدمون الحيلة والوسيلة للعودة مرة أخرى، فكأنه إجازة إجبارية يزورون فيها بلادهم ثم يعودون من جديد، لأن حياة الخوف والقلق التي يعيشونها في المملكة أقل إيلاما من مرارة العيش في بلادهم.
الروائي التشادي علي يوسف (ماريل) في روايته الصادرة عن دار مداد الإماراتية سنة 2017 يتحدث على مدى مائتي صفحة وعشرة فصول بلسان الخبير عن كلا المكانين فيصف لنا جدة بشاطئها (كورنيشها) وميادينها وحواريها وأزقتها، وفي المقابل يصف لنا تشاد وعاصمتها (أنجمينا) ذات الوجهين: الوجه الفرنسي الذي يخترقه شارع شارل ديجول وتزينه الفنادق ذوات الخمس نجوم والوجه الآخر الذي يسبح في بحيرات الصرف الصحي ومياه الأمطار.
تحكي الرواية قصة أم تشادية أعياها غياب زوجها فتُقرر اللحاق به في جدة، ومعها طفلها (واشيل). ومن باب التعاون مع جيرانها تضيف إلى جواز سفرها بعض أطفالهم وتصطحبهم معها. تفرح الأسرة بلم شملها مع معيلها الذي يعمل حارسا ليليا لعمارة تحت الإنشاء. تحبل المرأة من جديد بعد بضعة أشهر ويسلم الرجل نفسه للترحيل خشية الإملاق. تضع الأم حملها وتتحمل مسؤولية الأسرة من جديد فتعمل في تجارة التجزئة بالطريقة المعروفة آنذاك باسم (فرقنا). تحمل كل يوم صرة كبيرة (بقشة) على رأسها تدور بها على الأحياء لتبيع ما يخص النساء من ملابس وعطور وما يحتاج الأطفال من ملابس وألعاب.
ينشأ الفتى (واشيل) في حي النزلة اليمانية مع جيران من بني جلدته، ومن مواطنين يماثلونه في المستوى المعيشي. في الحي يتعرف على ابن جيرانهم (ماردمو) الذي لا يختلف عنه إلا أنه ولد في جدة لأب يعمل بشكل نظامي عند كفيل سعودي.
يؤدي الفراغ بالفتيان إلى ممارسة اللعب بالدراجات النارية (الدبابات) والانخراط في فرق الحواري للعب كرة القدم وتشجيع أنديتهم المفضلة إضافة إلى تشجيع المنتخب السعودي (الأخضر). يعيش الفتيان محبين لوطنهم الجديد حافظين نشيده الوطني ويلتحقون بالمدارس غير النظامية التي تقيمها جاليتهم، لكن كل ذلك لم يحمهم من الجيوب الخضراء (سيارات الشرطة) فقد اجتمع الفريق الرياضي في بيت مدرب الفريق (ريفو) وقبضت عليهم الشرطة ورحلتهم، ومن بينهم واشيل الذي عدَّ الترحيل إجازة إجبارية التقى فيها بوالده وتعرف على عاصمة بلده ثم عاد من جديد بتأشيرة عمرة.
لغة الرواية لغة شاعرية منذ صفحتها الأولى، لكن الانسياق وراء الشاعرية جعل عدد صفحات الرواية يتضاعف بسبب الاستطراد في أكثر من موضع، وأوضح مثال على ذلك الفصل الثامن؛ إذ يمكن حذف معظمه دون أن تتأثر الرواية.
يبدع الكاتب في الوصف والتصوير. ولنقرأ وصفه للبقشة والأم تدور بها ثم تفردها للزبونات: «الفرقنا.. الفرقنا.. هكذا بدأت تشدو بصوتها في بدايات الصباح كما البلبل حين يشدو على الأغصان.. تحمل البقشة فوق رأسها، وحين تحل إحكام البقشة أمام الزبائن تغدو وكأن زهرة نرجس تفتحت في وجوه المنتظرين». ص 74
ويصف العاصمة التشادية (أنجمينا): «وحدها أنجمينا يجتمع فيها كل شيء بكل شيء، عطر المطر برائحة البارود، النسيم بالغبار، الأمنيات بالكوابيس، البسمات مع الأنين والأحزان، الأغاني بصرخات المآتم». ص22
وتبدو السخرية واضحة في تشبيهاته التي تمتلئ بها الرواية نحو قوله يصف الرجال التشاديين على لسان بطل الرواية حين غادرهم بعد أن حبلت أمه: «إن لم أُتهم بالمبالغة فأستطيع وصفهم وتشبيههم بحيوان (الأيل). مهمته فقط تلقيح الإناث، ولكنه غير مسؤول عما سوى ذلك». ص63
وقوله يصف الفساد الذي عم بلاده: «ما أفظع هذا الشعور حين يقارن الوطن بالبوطة (المستنقعات)، والمواطنين بالضفادع التي لا يوجد لديهم مهاجرون ومغتربون». ص34
كما تخلل الرواية عبارات تأملية صيغت بأسلوب جميل، كقوله: «أولئك الذين كتبوا سطور الوعد نسوا منحنا حروف القراءة، فأصبحت صفحات اللقاء خالية إلا من صورة غلاف يعبر عن الحالة». ص39
وقوله: «لم أستطع فهم عدم قدرتنا على مغادرة هذا البؤس، عكس قدرتنا على مغادرة الأوطان من أول محاولة». ص54
سلط الكاتب الضوء في روايته هذه على كثير من القضايا، ومن ذلك كفاح الأم التشادية لإعالة أبنائها في مقابل الأب الذي أدمن الغياب وتخلى عن المسؤولية. فحين يسأل الأب ابنه بعد وصوله مُرحلا إلى أنجمينا إن كان قد اكتسب عادات سيئة كالتدخين مثلا يرد عليه بما يفيد أن أمه ربته: « لكن الله عوضنا. ترك لنا أما كانت وطنا، ومن يملك كذاك الوطن لن يضيع أو يعيش التشتت». ص 117
ويصور لنا وجها آخر بشعا لمأساة غير النظاميين، فضلا عن ترقب الرحيل وحرمانهم من التعليم، فيسرد لنا حكاية فتاة اعتدى عليها ابنُ مخدومها وحبلت منه، لكنها لم تستطع - هي وأسرتها - فعل شيء سوى الهرب!. ص76
ويتحدث عن الفساد المستشري في بلاده إذ لم يستطع الخروج من صالة جمارك المطار إلا بعد أن رشا الموظف ساعة يد جديدة، وحين أراد استخراج بطاقة هوية وجواز سفر للعودة مرة أخرى للمملكة لم يستطع الحصول على أوراقه إلا بالرشوة.
وقد دعاه هذا التحول إلى أن يتأمل التغييرات التي حلت بمدينته، فها هو جارهم الفقير الذي كان يعمل عتالا أصبح من النافذين. يفسر هذا لنا بقوله: «أسرع طريقة للثراء في بلادنا هي أن تعمل في وظيفة حكومية تقتات بالرشوة، أو تنضم للحزب الحاكم لتأتيك الأموال مطرا غزيرا».
ويقول في موضع آخر: « بمرور الأيام شعرت أن كل الروائح الكريهة التي تنبعث من بوطات هذه المدينة هي خليط من فساد المسؤولين فيها». ص135
حين كانت الطائرة تحلق في سماء جدة سأل الصبي واشيل أمه: «هي دي مكة يا أمي؟ وينه بيت الله»؟! ص50 وأكثر الظن أن واشيل لم ير الكعبة، فقد انتهت الرواية دون ذكر لعمرة أو زيارة، فليست تأشيرة العمرة سوى حجة للوصول للمملكة بنية الإقامة والعمل!
لم يحدد الروائي الفترة التي تغطيها الرواية لكن يمكن استنتاج ذلك، فبطل الرواية ولد سنة قتل الرئيس (تمبلباي) وهذا حدث سنة 1975 وكان طفلا حين قدومهم للمرة الأولى إلى جدة ربما لا يتجاوز عمره تسع سنوات، فيكون ذلك في حدود سنة 1984.
الرواية مليئة بالمفردات التشادية العامية، ورغم اجتهاد الروائي في ترجمة كثير منها إلا أنه أخطأ في أهم كلمتين، وهما كلمتا العنوان (البقشة) و(فرقنا). فقد فسر البقشة بأنها حاملة بضاعة يدوية قديمة، والفرقنا ملاءة توضع فيها الملابس وتحمل فوق الرأس لبيعها» ص 90
كما تضمنت الرواية مفردات أجنبية مستعملة محليا كان باستطاعته تجنبها، مثل (باص) و(لوري) ص 7-9
الرواية جميلة نقلتنا إلى أماكن مجهولة للكثير منا. تمنيت لو أن المؤلف دفع بها لمختص يراجعها قبل الطبع حتى يحميها من الأخطاء النحوية التي كانت كالقذى في العيون الجميلة!..
** **
- سعد عبدالله الغريبي