لا يكف الإعلام «المحايد» عن تشويه الواقع وتسميم الوعي، فوظيفته الأساسية منذ نشوئه في أوروبا الرأسمالية هو إخفاء الحقيقة أو تقطيعها إلى أجزاء منفصلة ثم تغليف كل قطعة بمجموعة من الأكاذيب. «استعمار» الوعي واقتياده عنوة للاستنتاج الخاطئ هو «استحمار» للرأي العام، الذي يلعب الدور الحاسم في التغيير.
الرأي العام الذي تم «استحماره» منذ منتصف القرن التاسع عشر أوروبياً وعالمياً، بإطلاق تسميات على الهيمنة الاستعمارية ما أنزل الله بها من سلطان، فتارة «مدنية أو حضارة»، وتارة «ديمقراطية» وتارة «تقدم» وما إلى ذلك من ترهات يصدقها ويتغنى بها «المستحمِر والمستحمَر». أما عندما تسقط الأقنعة ويبلغ الاحتقان مبلغه عند الشعوب كافة، يصبح «الإبداع» في الكذب الإعلامي أكثر تألقاً، حيث يحتاج «المواطن» في الدول الصناعية إلى نوع من الكذب «الخلاق»، ويحتاج «المواطن» في الدول النامية إلى نوع آخر من الكذب «الخلاق» ذاته!
بالرغم من ازدياد مجموعات المشردين (هوملس) والبطالة وسحق الطبقة الوسطى والإفقار المافيوي للبشر في الغرب، يعتقد السكان أنهم يعيشون في (الجنة) «الديمقراطية»، وأن بقية العالم يغبطهم ويستعر حقداً عليهم!.. والحقد الأكبر يأتي من روسيا!.. وإن سألت هذا «المستحمَر» الغربي أين تقع روسيا؟ سيجيبك أنها في إفريقيا! أو في المحيط الهندي! أو يتواضع ويقول لا أعرف.
أما في الدول النامية فالمصيبة أعظم، حيث رقص الإعلام أشد وقعاً من رقص (سامية جمال ونجوى فؤاد وفيفي عبدو) مجتمعين، ويعزف للإعلام جوقة مما يسمى «نخبة» ورجال دين و»مفكرين».
في ظل أحداث كبرى محلياً وعالمياً يتحفك أحد المراكز الإعلامية «الغراء» بشخصية نالت في غفلة من التاريخ مركزا اجتماعياً وتقول: قال «المفكر» الفلاني كذا وكذا ... ثم تبني قصوراً من الأكاذيب على ما قاله ذلك «المفكر»، وأنا أتساءل ما معنى «مفكر»؟ هل القارئ أو المشاهد أو المتلقي بشكل عام عاجز عن التفكير؟ ولماذا تهب المراكز الإعلامية كلها تقريباً وتعزف السيمفونية اعتماداً على ما قاله ذلك المفكر؟ التفكير ليس حقاً من حقوقي وحسب، إنه جزء من إنسانيتي ومن يريد سلبه مني، إنما يريد انتزاع إنسانيتي.
يصف «المفكر» اتفاقاً عقد بين موسكو وواشنطن أنه «صفقة»! وقد يكون ذلك الاتفاق هو صفقة بالفعل، فالصفقة: هي اتفاق بين طرفين أو عدة أطراف يكون الجميع مستفيداً فيها على حساب أطراف أخرى! ولكن معظم الاتفاقيات بين موسكو وواشنطن لم تكن «صفقات»، إنما كانت إذعانا من جانب واشنطن بسبب تغير موازين القوى على الأرض! .. إذن ما الذي تريد أن تدسه في وعيي أيها «المفكر الفذ»؟ هل تريد القول إن الدول الكبرى تعمل لمصلحتها فقط؟.
ما عجز عنه تفكيرك أيها «المفكر» أن الصين وروسيا يتوسع نفوذهما في القارات بدون حروب، لأنهما ببساطة شديدة يريدون مصلحة جميع الشعوب بما في ذلك مصلحتهم الخاصة. أما أسيادك أيها «المفكر» في واشنطن فيريدون نهب كل الشعوب حتى لو بحروب إبادة، ولكنهم أجبن من أن يغامروا بثرواتهم وأنفسهم فلجؤوا للحروب بالنيابة، وعندما تنكشف اللعبة وتتغير موازين القوى على الأرض ويلتف الساق بالساق، «يذعنون» صاغرين للأمر الواقع ويوقعون اتفاقيات مجبرين مع كل من يرفع في وجههم العصا. الصفقة إذن هي بينك أيها «المفكر» وبين المركز الإعلامي الذي يبرزك أنت وأمثالك من قمامة ما يسمى بالمثقفين.
** **
- د. عادل العلي