تحيَّةٌ تزفُّ إليكم معاشر القرَّاء الأماجد..
هو عَلَمٌ من أعلام هذا العصر, ورجلٌ من رجالات هذا المصر, رجلٌ له شمائل تميَّز بها عن كثير من الرِّجال= رجلٌ ألمعيّ, أستاذ جامعيّ, باقعة نحويٌّ, نابغة تصريفيٌّ, في العربيَّة أبو عَمرها, وفي اللغة أصمعيُّها، عربيٌّ صميم, بدويٌّ أصيل. إن تتلمذت له فخرت بذلك وافتخرت, وإن استشرته فرحت واستبشرت, أمين ناصح, صادق ديِّن واضح, جريء الفؤاد, متوقِّد الذِّهن, حاضر الخاطر, سريع البديهية, كشَّاف الحظوة, صاحب نظرة.
عَلَمٌ يعرفه الجادُّون من أهل العربيَّة داخل بلادنا المملكة العربيَّة السُّعوديَّة وخارجها، ممَّن وفد إلى بلادنا أو لم يفد, يراسله أهل الاختصاص من أهل العربيَّة في الوطن العربيِّ الكبير يخبرونه ويستخبرونه. تطلبه المراكز العلميَّة والجامعات والكراسيُّ مشاركًا مناقشًّا محكِّمًا؛ يخامرهم الفرح وتخاطرهم البهجة إذا وافق على طِلبتهم, أو أجابهم إلى رغبتهم.
عَلَمٌ إذا جلست إليه ينتابك هيبة العلم, ويجلِّلُك وقار المجلس لا هزلٌ ولا لغوٌ, وإنَّما جدٌّ في تحقيق مصلحة, وحدٌّ في تحرير مسألة, إذا تكلَّم كأنَّما يتحدَّر من صَببٍ, ينصبُّ الكلام على لسانه انصبابًا, لا يملُّ مجالسه, بل لا يرغب في أن يقطع حديثه. وهو إذا تكلَّم في شيء أعطاه حقَّه ووفّاه مستحقَّه تحليلاً وتحريرًا, ويبلغ المنتهى في ذلك ويوفي على الغاية. إذا عقَّب سكَّت, وإذا جادل بكَّت.
عَلَم لا يبخل بما عنده من علمٍ, ولا يضنُّ بما لديه من معرفة, عنده مكتبة عامرة لا ينكفئ عليها بل هي مفتوحة لمن يرغب في تقرير مسألة, أو تحرير مشكلة, أو بحث قول مستشكَل, أو رأي مستبهم, بل هو في ذلك يتدفَّق خاطرة في حلِّ المستشكَل, ويتفتَّق ذهنه في فكِّ أي معضلة علميَّة, أو واقعة أو نازلة غير مسبوقة, فهو يلحق النَّظير بالنَّظير, والشَّبيه بالشَّبيه في قدرة عجيبة على ضمِّ أطراف الحديث, وربط خيوط المسألة حتَّى تأتلف كاملةً أو شبيهةً بالكاملة, وذلك منه في عمومِ ما يقع له وما يعرض عليه, وفي التَّخصُّص بشكل أدقَّ وصورة أوفى أجلى= ومردُّ ذلك عائد إلى سعة الاطِّلاع وقوَّة البصيرة, وله عمقٌ في النَّظر للحقائق, وسبرٌ للدَّقائق, وبصرٌ في المآلات عجيبٌ, هو نادرة غير منازع.
عَلَم إذا سألت في النِّظام فهو أبوه وأمّه؛ نظامِ الجامعات نظامِ الوزارات بل والحكومات, وطالما طُلب مستشارًا لبعض الوزارات. هو جادٌّ يريبه الكسل, يؤلمه ويقضُّ مضجعه مخالفة النَّظام، لطالما سمعته يردِّد:» هذه شهادة,» أنت مؤتمن», « هل تبرأ الذِّمة بذلك؟»,» لا تبرأ الذِّمة بهذا», هو دقيق في الوقت لا يكاد يتأخر في عمله أو محاضراته, يبتدئ في الوقت المحدَّد, فلا يبتدئ بعد الوقت ولا ينتهي قبل الوقت.
عَلَم خبيرٌ كبيرٌ في عالم المخطوطات يعرف قيمتها, ويعرف مكانها وإمكانها, كلامه عليها ثمينٌ سمينٌ إذا أعطاك حكمًا عن شيء في عنوان بحثٍ, أو عن محتوى مخطوطٍ, أو عن اسم مخطوط فلا تتجاوز كلامه في ذلك, وسِر وَفق ما قال؛ فإن خالفت قوله فقد استجهدت نفسك من غير ما ثمرةٍ, فإنَّك بعد طولٍ مشوارٍ وتفريط وقتٍ عائدٌ إلى ما قاله, وبالغٌ ما حكَمَ به.
عَلَمٌ بدأ مشواره العلميُّ ودرج في أوَّل خطواته الأكاديميَّة بعَلَمٍ شامخٍ من أعلام العربيَّة, فقد كانت رسالته للعالِميَّة (الماجستير) بعنوان (هشام بن معاوية الضَّرير: حياته, آراؤه, منهجه) هذه أوَّل عتبة دخل معها إلى الدِّراسات العليا, والرَّقيّ بها السُّلَّم الأكاديميَّ= وهذه الرِّسالة مجهدة له إذ اكتنفها التَّنقيب والتَّنقير عن آراء هشامٍ الضَّرير في مخطوطات كتبٍ مطوَّلات نحويَّة, وقد أتعب نفسه وسهَّدها في استخلاص الآراء في رومٍ حثيثٍ لكمال البحث وتمامه, ومن المحامد أنَّ تلك الرِّسالة طبعت كتابًا, وظهرت لأهل التَّخصُّص؛ فكانت مرجعًا عن نحويٍّ كبيرٍ من الرَّعيل الأوَّل الَّذين لهم أثر في الدَّرس النَّحويِّ, وأصبح هذا الكتاب المرجع الأوفى في عَلَم النَّحو الكوفيِّ هشام الضَّرير.
عَلَمٌ ختم مشواره العلميِّ بل ختمت مشواره السِّتُّون نظامًا بكتابٍ أيضًا ضخمٍ, فهو أبَى أن تخرجه السِّتُّون إلاَّ كما دخل, فها هو يخرج كتابًا كبيرًا عن عَلَمٍ من أعلام العربيَّة المعاصرين, ذاكم هو شيخه شيخ العربيَّة الأستاذ الدُّكتور: محمَّد بن عبدالخالق عضيمة, كتابٌ ضخم شمل حياة الشَّيخ, ومؤلفاته, وما كُتب عنه, ورسائله, ومقالاته, وفهارسه, تعقيباته, كتابٌ طوى أكثر من سبعمئة صفحةٍ وكَفْيُك بسبعمئةٍ عددًا!, كلُّها في رحاب (عضيمة)؛ أحيا ذكره, وأنبه إلى آثاره, واستنبت موات مقالات عنه طواها الزَّمن أو كاد, فربَّّما بعضها مرَّ عليه نصف قرنٍ.
ذلكم العَلَم هو الأستاذ الدُّكتور: تركي بن سهو بن نزَّال العتيبيِّ أبو عمر أستاذ الدِّراسات العليا في (قسم النَّحو والصَّرف وفقه اللغة) أحد أقسام كليَّة اللغة العربيَّة بجامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة. وإنَّ هذا الصَّنيع منه وذا الكتاب لهو محمدة من ممادح الدُّكتور: تركي, وعزمة من محامده= ففيها الوفاء من تلميذٍ لأستاذه, إذ بذلك تحفظ مآثر الرَّاحل الشَّيخ, وتجمع آثاره وما كتب عنه كلُّ ذلك في كتاب جامعٍ, وهو عملٌ بالحقِّ ناطق, وبالنَّفع ساطع.
ومن عجبٍ أنَّ كتاب د. تركي الَّذي دخل به مدرجة العمل الأكاديميّ وهو رسالته للعالِميَّة (الماجستير) ابتدأ به في حياة الشَّيخ, والشَّيخ يرقب استنباته له, وعمله فيه, وربَّما عرض عليه المسائل مستشيرًا ومستثيرًا, غير أنَّ الشَّيخ رحل إلى دار الخلود, قبل تمام العمل في الرِّسالة.
وها هو د. تركي ينهي مشواره العلميِّ نظامًا بكتاب عن ذاكم العَلَم الشَّيخ عضيمة. فالدكتور: تركي عَلَمٌ قد عايش التَّعلُّم والتَّعليم بين عَلَمين ابتدأ بأحد أعلام النَّحو المتقدِّمين, واختتم بأحد أعلام النَّحو المعاصرين.
إنَّ من معتادات الأمور أن تكون النِّهاية على خلاف البداءة، فعند النِّهاية يظهر الضعف ويقلُّ النتاج, ويعلو الإنسان النَّهيج والجهد ممَّا بذل طَوال السِّنين, غير أنَّ الدُّكتور: تركي بن سهوٍ خالف ذلك فكان كتابه هذا في نهاية مشواره في العمل نظامًا زاخرًا فاخرًا ضخمًا جدًّا, فما زال الدُّكتور تركي في ريعان عطائه, لم تثلمه كرُّ السِّنين زيغوغة عن طريق الحقِّ اللاحب, أو تهبط بمستوى معياره في الإنتاج, بل زادته توجُّهًا إلى الحقِّ وتوهُّجًا به, وهو في سبيل النَّفع والدَّفع معطاءٌ لا يبخل, وكريم لا يضنُّ ولا يمنُّ.
وكتاب د. تركي عن الشَّيخ عضيمة بعنوان: (محمَّد عبد الخالق عضيمة سيرة حياة) قد نهض بكتابته مجتازًا سبعمئة صفحةٍ, وقد قسَّمه أقسامًا, فهو مقدّمة, وخمسة فصول, وخاتمة وفهارس, فالمقدِّمة جاءت مختصرًا للفصول الخمسة.
- وأمَّا الفصل الأوَّل فعن حياة الشَّيخ وأصل المكتوب فيه كان قد نشر مقالاً استُكتِبه د. تركي مشاركًا به في الكتاب المهدَى إلى (أ. د: حسن الشَّاذلي فرهود -رحمة الله عليه-) المسمَّى: الشَّاذليَّات, وفيه عن حياة الشَّيخ: (اسمه, ومولده, وتعليمه, وشيوخه, وحياته الاجتماعيَّة, وأسفاره), ثم آثاره, وجهوده في الدِّراسات العليا, وعلاقاته, ووفاته, وقد ناف المكتوب في الفصل هذا على الثَّلاثين صفحة.
- وفي الفصل الثَّاني كان الحديث عن منهج الشَّيخ في التَّأليف والتَّحقيق والفهرسة, وهو في ثلاثة مباحث هي: منهجه في التَّأليف, ومنهجه في التَّحقيق مبحثًا ثانيًا, وثالثًا: منهجه في الفهرسة= وقد أورد فيه د. تركي عن شيخه شيئًا من عزيز اللطائف وغرر الفوائد في التَّأليف والتَّحقيق والفهرسة, وقد جاء في ستٍ وأربعين صفحةٍ.
- الفصل الثَّالث جاء عنوانه: ( عضيمة في الرسائل العلميَّة), وقد استبطن هذا الفصل أربع رسائل عن الشِّيخ عضيمة, وجاء في زهاء أربعين صفحة.
- والفصل الرَّابع في مقالات الشَّيخ, وقد تقسَّم على أربعة أفرعٍ= ففرعه الأوَّل بعنوان: (المقالات الَّتي تتعلَّق بالدِّراسات القرآنيَّة)، وساق فيه الدُّكتور: تركي ثمانية مقالات تامَّة للشَّيخ, قُدماهنَّ السَّنة (1393هـ), وآخرهنَّ السَّنة (1403هـ). والفرع الثَّاني بعنوان: (المقالات الَّتي تتعلَّق بالأعلام), وساق فيه مؤلِّف هذا الكتاب لشيخه ثلاث مقالات. وثالث الأفرع جاء بعنوان: (المقالات الَّتي تتعلَّق بتجارب الشَّيخ), وفيه ثلاث مقالات. ورابع الأفرع بعنوان: (المقالات الَّتي تتعلَّق بالنَّقد والرُّدود والفهرسة), وفيه ست مقالات= وذا الفصل الرَّابع بأفرعه الأربعة هو أوسع الفصول إذ تجاوز عدُّ صفحاته خمسًا وأربعين وخمسمئة صفحة.
- وختام الفصول الفصل الخامس, وهو في المكتوب عن الشَّيخ من مقدمات لكتبه, أو مقالات عنه, وجاء تَعداد صفحاته زهاء أربع وأربعين صفحة.
اعتقب ذلك خاتمة, ففهرس المصادر والمراجع, وفهرس الموضوعات.
من طرائف هذا الكتاب النَّاطقة بشهامة د. تركي وصدقه ونقاء سَّريرته, وحرصه على التَّمام وتَطلاب الكمال أن ذكر في الفصل الثَّالث رسالة بُنيت على الحطِّ من قيمة جهد الشَّيخ عضيمة لا في الفهرسة فحسب, بل كذلك في كتابه المعلمة الكبير: (دراسات لأسلوب القرآن), وقد عرض ما جاء في الرِّسالة عرضًا موفيًا بعبارة راقية جدًّا بعيدة عن الذَّم والهدم, وبلغة رزينة لم تصبها هائجة العاطفة, وإن تألم لذلك وأبان عنه. وهائجة العاطفة عاصفة فكثيرًا ما تسفَّلت بأصحابها, واللغة العاطفيَّة إذا هاجت غضبى وإنَّها لتنحدر بأصحابها إلى المقاذعة والسِّباب, قد عصم الله د. تركي بن سهوٍ من النُّزول إلى درك ذلك -وحاشاه- وإنَّ المقام والعبارة واللغة الَّتي حشدت بها تيك الرِّسالة لتنجب تلك اللغة العاطفيَّة وتوجبها, لكنَّ وفرة عقل د. تركي وصفاء روحه, وثقته بنفسه وبشيخه جعلته يعالج المسألة بلغة راقية رائقة, وقد انساب منه عتب على تلك الجامعة؛ فلله درُّه ما أجمل ما كتب!.
إنَّ الدكتور تركي بن سهوٍ في عمله هذا أوقد مشعلاً يستوقد منه, وصنع منارًا يستضاء به, فكم تلميذٍ بعد أن نضج وعرف قيمة العلم وأهله تخامره خواطر يريد أن يدوِّنها عن أستاذه, وكم طالب علمٍ في دواخله حديث يروم أن يفصح به عن شيخه= كل أولئك سيكون الدُّكتور: تركي أستاذًا لهم بذلك, وعمله مقبسًا يقتبسون منه نورًا, وهو بهذا يكون افتتح لهم بابًا يدخلونه, وأنهج لهم سبيلاُ يترسَّمونه, وهذه ليست بأوَّل مخترعاته الحسان, ولا أوحد مآثره, فكل ميدانٍ سلكه لا بدَّ أن يكون له أثر فيه, يقتفي به مَن بعده وينتهج فيه نهجه, فله بصمة في الميادين الَّتي ولجها تشهد له أنَّه أوحدها وصانعها.
ذاكم هو (العَلَم بين عَلَمين) وفق الله الأستاذ الدُّكتور: تركي بن سهو العتيبيّ وسدَّده, وأطال عمره, ونفعنا بفضله وعلمه وعمله.. بالمحبة والوفاء أودِّعكم معاشر القرَّاء.
** **
فهيد بن رباح الرَّباح - أكاديميّ في كليّة اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
fhrabah@gmail.com