ربما تكون التعددية الثقافية أكثر نجاعة إذا تشاركت الثقافات بالحوار لا على سبيل نصح و توجيه بل على سبيل تلاقح ثقافي و فكري و فلسفي ؛ و تكون العلاقة أفقية لا رأسية ؛ وهي السبيل الأنجع في الحوار بين الثقافات ؛ فالحروب و العنف و رفض الآخر كلها منتجات لفكرة الثقافة المقدسة المخلصة للبشر التي تنفي الآخر بحجة أنها الأفضل ؛ وتشترك هذه الأفضلية بين الأصولية و الحداثية ؛ فكلاهما يظن أن ثقافته هي الأسمى و المتطورة و المنقذة للبشر من إشكالاتهم المعاصرة و المستقبلية ؛ وهذا المنظور هو الذي سيقضي على التعددية الثقافية و يكرس الطبقية أو المتن و الهامش ؛ وعليه ستغيب روح الحوار و التلاقح الفلسفي و الفكري بين الثقافات .
و يكمن اهتمامنا بتقديم (التعددية الثقافية) على الحوار لأن الاقتناع بعدم قدسية الثقافة مقدم على الحوار ؛ فقد يصل حد الصعوبة أن يُفتح مجال الحوار مع من يرى أن ثقافته هي المقدسة و الأفضل و هو المخلص لغيره من الثقافات ؛ وما الثقافات الأخرى إلا تابعة له ؛ فمثل هذا النموذج يصعب الجلوس معه على طاولة الحوار ؛ لذا فإن تقديم الاقتناع بالتعددية الثقافية مقدم على الاقتناع بأهمية الحوار مع الثقافات الأخرى ؛ وما الحوار إلا تبعا للتعددية ؛ و لعل هذا ما يركز أهمية العلاقة الأفقية بين الثقافات لا العلاقة الرأسية ؛ لأنها هي التي تُعِين في فتح مجال الحوار بينما العلاقة الرأسية فإنها ستضع حائطًا بين هذه الثقافات ؛ ويجعلها في موطن التوجيه و التخليص لا في موطن التلاقح الفكري و الفلسفي .
و من الممكن أن يفتح لنا هذا مجالاً رحبًا نحو الاقتناع بجدلية الثقافة ذاتها ؛ فننتقل هنا من (صراع الثقافات) إلى (جدل الثقافة) ؛ فالثقافة تكون في جدل مستمر مع ذاتها ؛ وهذا ما نلاحظه في كل الثقافات التي تنقسم على ذاتها على مر
تاريخها البشري ؛ فنلحظ (الشيعة/السنة) في الإسلام ؛ كما نلحظ (الكاثوليك/ البروتستانت) في المسيحية ؛ و نجد (النفعية/الفردية) في الفلسفة ؛ فكل هذه الانقسامات هي انقسام الثقافة على ذاتها ؛ بمعنى هو جدل الثقافة مع ذاتها أكثر من صراعها مع غيرها ، و هذا ما يعمق الفكرة السالفة التي أرى فيها تغير الثقافة لا تطورها ؛ فالتغير داخل الثقافة مستمر و متشعب بحسب السلطات التي تتكاتفها ؛ و الجدل داخلها لا ينفك عن الانقسام ؛ فهي صيرورة الثقافة مع ذاتها ؛ وهذا منحى مهم جدا للاقتناع بالتعددية الثقافية ؛ كما أنه منحى مهم جدًا لقبول الحوار ؛ و الحوار في هذه المعادلة هو المنحى الأخير الذي يسبقه الاقتناع بجدل الثقافة مع ذاتها ؛ ثم التعددية الثقافية لاحقًا ؛ ثم الحوار باعتباره الهدف الأسمى .
جدل الثقافة - التعددية الثقافية - الحوار
و بهذا يمكن للحوار أن يؤتي أُكُله ؛ ويُظهر مدى التلاقح الفكري و الفلسفي بين الثقافات ؛ أما في حالة جمع العديد من الثقافات على دائرة الحوار مع وجود النظرة الاستعلائية من ثقافة لأخرى ؛ فإن هذا سيزيد البوْن بين هاته الثقافات ؛ وستكون هذه الدائرة مَكْمَن خطر أكثر منها مكْمن تقارب فكري و فلسفي ؛ و عند هذا التسلسل يمكن لنا أن نرى القوة الإيجابية للحوار بين البشر و الثقافات ؛ شريطة أن ينطلقوا من منطلق أحادي ؛ و هو منطلق التعددية لا منطلق الأفضلية ؛ فهو الكفيل بأن يقارب بينهم و يفتح لهم الكوّة نحو الحوار
** **
- صالح بن سالم
@_ssaleh_