د. عبدالحق عزوزي
مرت 55 سنة على توقيع معاهدة الإليزيه، إذ وقع الرئيس الفرنسي شارل ديغول والمستشار الألماني كونراد أدناور، معاهدة صداقة طوت حقبا متتالية من الصراعات الدموية بين الجارتين وفتحت آفاقاً جديدة للتعاون البناء بينهما. منذ تلك الفترة تجذرت العلاقات بينهما على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية بل وحتى العسكرية. كما تنوعت وكثرت اللقاءات والمشاريع المشتركة بين الدولتين من تشكيل لكتائب عسكرية تجمع جنود البلدين إلى إنشاء شركة «إيرباص» عملاق الطيران العالمي في العام 1970. والأهم من هذا كله أصبحت القوتان قائدتين لمشروع أوروبا الموحدة وأمل القارة العجوز في تحقيق الرخاء والنمو للشعوب الأوروبية.
وفي احتفالات كبيرة نظمتها البلدتان، أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل عزمهما على توثيق التعاون بين البلدين، واتفقا على إعداد معاهدة إليزيه جديدة خلال هذا العام من أجل «تعميق التكامل» الاقتصادي و»تعزيز الصلات» بين المجتمعين، وقال الجانبان في البيان المشترك الذي صدر بعد يومين من لقاء في الإليزيه، «قبل 55 عاماً، وقع شارل ديغول وكونراد إديناور معاهدة التعاون الفرنسي-الألماني (معاهدة الإليزيه).. منذ ذلك الحين، الصداقة الفرنسية-الألمانية هي دعامة للتكامل الأوروبي. وفرنسا وألمانيا هما شريكان سياسيان كبيران وجاران يثق كل منهما بالآخر».
وأضاف البيان أن الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية كررا في الذكرى الخامسة والخمسين للمعاهدة «تأكيد عزمهما على توثيق التعاون بين فرنسا وألمانيا، انسجاماً مع الروح التأسيسية للتعاون الملموس التي تضمنتها معاهدة الإليزيه والتقارب بين المواطنين». وأوضح البيان أنهما اتفقا خلال اجتماعهما الجمعة، «على إعداد معاهدة إليزيه جديدة خلال هذا العام» من أجل «تعميق التكامل» بين اقتصاديي البلدين و»تعزيز الصلات» بين المجتمعين المدنيين.
كل هاته الوقائع وكل هذا الكلام يؤكد لنا ما كتبناه مرارا في صحيفة الجزيرة الغراء أن عامل الثقة وعامل الدول المحورية وتفعيل ذلك مؤذن بقيام وحدة تكتلية صلبة... وهذا طبعا «دينامو» أي تعاون أو تكتل إقليمي، فبدون الثقة وبدون دول محورية كبِّر أربعاً على وفاة المنظومة الإقليمية. فالثقة تسقي عروق شجرة الإخاء وتمكن من السير بعيداً بآليات التعاون والبحث المشترك عن البنيات والاستثمارات المربحة للجميع، فتفتح الحدود ويسير البشر بحرية بين البلدان وتتبادل الجامعات الطلبة والباحثين وتتقوى أسس التنمية ومعرفة الآخر والبحث عن القواسم المشتركة، ويتبادل العلماء نتائج أبحاثهم ويعطون نفسا جديدا لكل مشروع يجعلونه مربحا وينجحون سويا في وضعه في قلب العولمة التي لا ترحم إلا من يشتغل بروح الجماعة ومن يضع في أروقتها صناعات واختراعات لا يعلى عليها..
إن الاتحاد الأوروبي هو تكتل جهوي ناجح؛ فهو مكون من 28 دولة، والدول المحورية التي قادت وتقود سفينته بإستراتيجية خارقة للعادة وبدون كلل أو توقف، سنجدها طبعا في دولتين رئيسيتين: فرنسا وألمانيا. فالاتحاد الأوروبي تمكن من إنجاز كل ما تحقق إلى حد الساعة بفضل هذين البلدين الذين أسسا لبنية مؤسسية وتنظيمية جعلت منه نظاما سياسيا وقانونيا وحدوياً له اليوم احترام وتقدير قل نظيرهما. نرى في اجتماعات الاتحاد الأوروبي كيف أن كل قائد أوروبي يوقع على مختلف الاتفاقيات بجوار فقرة مكتوبة بعشرات لغات الاتحاد الأوروبي، أي بمداد الوحدة ونكران الذات؛ ونرى كيف أن القادة الأوروبيين يتجاوزون الفكرة القومية إلى ما هو أعلى منها وأكثر ملاءمة لتطور الأحوال والأزمان... وهذا التجاوز يتم من الدولة- الأمة إلى ما هو أعلى منها وأوسع وأشمل، بينما لم تتمكن الفكرة العربية أساساً منذ أزيد من عقدين، من أن تتجسد في دولة-أمة كي تنظر في إمكانية تجاوزها إلى ما هو أعلى وأوسع وأرقى.. فأوليس من واجبنا في ختام هاته المقالة أن نتوقف لحظة أمام البناء الأوروبي المتدرج والمدهش حقا في تجاوزه لتحفظات الكثيرين ولأثقال الماضي وفي اعتماده حصرا على رؤى نخب تنظر نحو البعيد ولا تكتفي بالعناصر البارزة للواقع؟.. ثم أوليس من واجبنا أن نتوقف لحظة أمام بناء اوروبي يضم لغات عديدة لدرجة أن عدد المترجمين في مؤسسات الاتحاد يزيدون على اثنين من أصل كل خمسة موظفين فيها؟.. وأوليس من واجبنا أن نتوقف أمام صلابة هذا الثنائي الألماني-الفرنسي في عملية البناء هذه بعد أن كان الثنائي قد تمزق في حروب ثلاث طاحنة في الأعوام 1870 و1914 و1939؟.