عماد المديفر
منذ أن بدأت وزارة العدل -مشكورة- نشر إحصائياتها حول حالات الطلاق والزواج للسعوديين في المملكة عبر موقعها الإلكتروني، وتحديثها لهما باستمرار، وقامت وسائل الإعلام من جهتها بنشرها، أداءً لدورها؛ هلع الناس.. وبدأوا يتحدثون في مجالسهم عن «ازدياد مهول» في حالات الطلاق.. معتقدين بأنها أضحت تشكل ظاهرة خطيرة في الآونة الأخيرة.. وبدأ المنظرون ومن يسمون بـ»الخبراء» بالحديث عن هذه الظاهرة، ويبحثون في أسبابها، لتخرج لنا بين فترة وأخرى أسباباً عجيبة غريبة يجري ترويجها، كأن يحيلها أحدهم مثلاً إلى «ضعف الوازع الديني»! وقلة التمسك بالدِّين! وضعف العلم الشرعي! في حين أن واقع الحال يقول بأن النشاط التوعوي والتعليمي الديني في المملكة لا يضاهيه نشاط! ولا يماثله فعاليات و أجهزة و تعليم.. إِنْ من حيث الكم، أو الكيف.. ويفند مثل هذه الإحالة؛ تلك الحقيقة التي تقول بإن معدلات الطلاق لدينا تزيد بكثير عن دول (وثنية) أو بوذية كفيتنام أو النيبال، وأخرى مسيحية علمانية منفتحة كإيطاليا وفرنسا وبريطانيا، أو حتى يهودية كإسرائيل! على سبيل المثال لا الحصر.. إذن.. فموضوعياً؛ متغير (التدين بالإسلام) أو (التمسك بالتعاليم الدينية) هو متغير ليس له دلالة ملموسة في قراءتنا الموضوعية لأسباب هذه الظاهرة، كون تحليل المؤشرات والبيانات يكشف أن لا أثر له ملحوظ ومباشر في ارتفاع حالات الطلاق من عدمها. وكذلك الحال بالنسبة لمتغير (التربية والأخلاقيات) كوننا مجتمعاً يعتني كثيراً بهذا المتغير، ويحترم الحياة الزوجية، ويحرص الرجل على إكرام المرأة والرفق بها كما أوصانا عليه الصلاة والسلام، والعكس صحيح أيضاً.
لاشك بأن قراءة هذا المؤشر مقلقة جداً، ولربما بدت محيرة للبعض، إذ أضحى الطلاق بالفعل ظاهرة حقيقية، فعلى سبيل المثال؛ كشفت إحصائيات وزارة العدل المنشورة على موقعها بشأن حالات الطلاق خلال الشهر الماضي فقط، أنها بلغت 5.287 حالة، مقابل 11.638 حالة زواج، أي أن معدلات تسجيل حالات الطلاق تقارب نصف ما يتم تسجيله في حالات الزواج خلال تلك الفترة.
بيد أن هذه المشكلة، والتي غدت بالفعل (ظاهرة)، ليست -بحسب البيانات والأرقام الإحصائية- وليدة السنة، أو السنتين أو الثلاث أو حتى الأربع الماضية! بل هي وليدة جيل، وربما جيلين بأكملهما.. والأكيد أن هذه الظاهرة لم تكن موجودة في جيل الأجداد.. وكان الطلاق في عهدهم من الحالات الشاذة والنادرة.. فما الذي استجد؟!.
قد يدفع ذلك البعض للاجتهاد والقول بأن التطورات التقنية لها الدور الرئيس في ذلك، لكني لا أراها هي الأخرى سبباً حقيقياً، كونها تشمل اليوم البشرية جمعاء، وليست حكراً على بلاد محددة.
كانت جدتي (العالمة والمعلمة في الشرع واللغة والحساب) نورة الراشد -عليها رحمة الله- أو «الراشدية» كما يحلو لأسرة أخوالي (البابطين) مناداتها -والتي تعلمتُ على يدها قراءة القرآن وتجويده- دائماً ما تحكي لي القصص والحكايا عن جدي لأمي عبدالرحمن أبابطين -عليه رحمة الله- والذي لم يُكتَب لي رؤيته.. حيث توفي قبل ولادتي بأربعة أشهر. كانت تكتب فيه الشعر، وإن هي حزنت لأي سبب كان، اتصلت بوالدتي وطلبت منها إرسالي إليها، لأقرأ على مسامعها -بعد أن ضعف نظرها- أشعار وقصائد الغزل التي كتبها لها جدي، وردودها عليه.. وكانت -عليها رحمة الله- وهي حفيدة العلامة عبدالله بن محمد بن راشد بن جلعود، شيخ علم الفرائض في نجد وشيخ كل من سماحة الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -مفتي الديار- والشيخ عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ، عليهم رحمة الله جميعاً، وهو «ذراع» الملك عبدالعزيز -يرحمه الله- في نشر العلم الشرعي في خميس مشيط وأبها -كما يصفه العارفون فيه- والذي توفي هناك، كانت يرحمها الله متيمة في جدي، وما رأيتها إلا وهي تدعو له ولوالديها والدي والديها، وتسأل الله أن يجمعها بهم في جنات النعيم.. سألت جدتي عن سر هذه المحبة والتعلق بجدي عبدالرحمن رغم فراقها له منذ وفاته قبل أكثر من 35 سنة، فعرفت أنها تزوجته عن قصة حب وعشق عظيمة ورائعة.. وأنها اختارته وأحبته «من بين شباب روضة سدير جميعهم» -حسب قولها- وهي تقول ذلك عليها -رحمة الله- بكل فخر، وعينيها الكريمتين الطاهرتين تغرورقان بالدمع.
كانت الحياة بسيطة، وطبيعية.. ولم تكن ثمة تعقيدات متخلفة تفصل بين الرجل والمرأة.. كان الاختلاط طبيعياً، الرجال والنساء في كل مكان معاً.. يداً بيد.. في كل شيء. في العمل، في السوق، في المزرعة، وفي طلب العلم. كان الشباب يعرفون فتيات قريتهم، وحارتهم، والعكس.. كانوا يلتقون، ويتحدثون، ويلعبون، ويتعاملون، ويتعاونون مع بعضهم البعض في أمور الحياة.. لذلك، إذا ما أراد الشاب من هؤلاء الارتباط بشريكة حياته، فإنه هو من يختارها، لمعرفته بها، ومعرفتها به غالباً في تلكم الأيام الجميلة، وتلكم المجتمعات المتدينة البسيطة، قبل لوثة الصحوة وتعقيداتها وعقدها التي تخالف الفطرة الإنسانية والإسلامية السليمة.
إن الحقيقة المنطقية التي ينبغي مواجهتها فيما يخص ارتفاع مؤشرات الطلاق لدينا، هو أن الزواج عندنا أضحى يتم بشكل لربما بدا مختلفاً عنه في أي حالة زواج إنسانية في أي مكان في العالم، وفي أي زمان..! إذ اختيار شريك الحياة يقوم به -إن كان المتزوج محظوظاً- أمه أو أخته أو خالته أو عمته، أو أن يتزوج أبناء وبنات العمومة أو الخؤولة بعضهم ببعض، وإلا فبعض الزيجات تتم أيضاً بناء على ما يتناقله النساء فيما بينهم عن فلانة أو فلان الذي يبحث له عن زوجة، فتتزاور أسر لم تعرف بعض من قبل لتخطب لابنها، فلا يعرف أحد الزوجين في الواقع الآخر معرفة حقيقية إلا بعد الزواج، والذي يتم بصورة أقرب ما تكون لزواج آلات، منه لزواج بشر! حتى أن بعضهم، ساخر، شبّه الزواج بشراء «البطيخ» من قبل شخص غير خبير، فلا يعلم مناسبته من عدمه إلا صدفةً!.
ترى.. هل هذا الوضع طبيعي؟.. إننا إذا ما أمعنا النظر في الكيفية التي أصبح يتم من خلالها اختيار الأزواج لبعضهم، لتعجبنا أن نصف الحالات فقط هو من يفشل! وربما النصف الآخر نجح لأننا مجتمع كريم يحترم المرأة ويقدرها ويحترم الحياة الزوجية، ولا يعني أبداً أن عدم الطلاق هو أن الزواج بهذه الكيفية قد نجح!.
وإذا ما أردنا الحل، فعلينا الاعتراف بالمسببات الحقيقية للمشكلة.. وإعادة النظر في منظومتنا الاجتماعية والقيمية التي تأثرت بالصحوة المتخلفة الدخيلة، فعزلت الجنسين عن بعضهما البعض في كل شيء، بدءاً من التعليم، وليس انتهاءً بالعمل والمناسبات الاجتماعية.
إلى اللقاء،،،