د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** حين كان قاضيًا في «الواحات الخارجة» روى أحمد أمين 1886- 1954م أن خطيب الجمعة في إحدى القرى الصغيرة الفقيرة حذر الناس من زيارة أوربا وهم لا يكادون يجدون قوت يومهم ولم يعرفوا من العالَم أبعد من حدود مزارعهم، وروى الأستاذ عبدالرحمن البطحي 1938- 2006 م أن خطيبًا في بلدة صغيرة خصص خطب الجمعة للتحذير من الشيوعية فرفض أحد المصلين السفر للعلاج في دولة قريبة خشية أن يطبخوا له شيوعية حمراء.
** ليس الأمر متصلاً بأناسٍ بسطاء وخطيبٍ منفصلٍ عن الزمن؛ فالحكايتان تشيران إلى أهمية التواؤم بين ثلاثية «المكان والزمان والإنسان»، وهي الثلاثية الفاعلة في تيسير التواصل مع الآخر المختلف كما المؤتلف، وقد سبق أن فصَّل علماء الأصول حول تغير الفتوى بتغير الأمكنة والأزمنة والأحوال والعادات والنيات، ولهم أمثلة في ذلك يمكن استقصاؤها في مظانها، وربما تجاهل المفتي استفهامًا كي لا يقع في دائرة القطع بحكم يرى ببصيرته أنه قد يتغير، ومما تستوعبه الذاكرة أيام الطلب أن استفتى أحدُنا شيخنا الجليل محمد العثيمين 1929-2001م عن حكم «الخنافس» - وقد شاعت قصاتٌ تطيل شعر الخدين إلى منتصفيهما - فأجاب: لا يجوز أكلُها، وحين سئل عن «الشيشة» استعاد وجودها في منطقة بعيدة عن مدينتنا وأعرض عن التفصيل، وفي المثلين ما أفهمَنا أنه لا يود إطلاق حكمٍ جازمٍ لأسئلةٍ عابرة، وهو ما كان السلف يتبعونه في السكوت عن إجابة ما يرون التأنيَ فيه، والقصص المتواترة عنهم تتماثل مع المنهج الشرعي في التثبت وعدم الاجتراء أو الافتراء.
** تبدلت اقتناعات وتعدلت فتاوى وبدا لنا حلالاً ما ألِفناه محرمًا، وانتقد هذه التحولاتِ بعضُ من ظنَّ الفتوى جامدة دون أن يرى المتغيرات الأخرى التي أوجبتها، والأمر نفسه لمن لا يدرك مرحلية الفكر وفق الأبعاد «الثلاثية»؛ فالذي حرم زيارة أوربا وحذر من الشيوعية لم يراعِ المعادلة الثلاثية؛ فلا المكان مكانهما ولا الزمان يخدمهما والإنسان غريب عن طرحهما.
** واليوم متونٌ تصمت عن الكلام وهوامش تتصدى للأعلام وتتصدرُ الإعلام فتختلط أوراقُ الاقتناعات، ويتجه الجدل نحو الجزئيات دون تأكيد دور «الزمان والمكان والإنسان» في التغيير والتطوير، ومن غير أن نعيَ أن ما تبدل اليوم سيتبدل غدًا؛ فالماء - كما يقولون - لا يعبر النهر مرتين، وهو ما يعني عبثية الحوار واستحالة الحصار.
** لدينا قضايا مفصلية تتصل بموقعنا في مسار النجوم أو خلف الغيوم، وقد مللنا خلافاتٍ لا تنتهي إلا لتبدأ منذ أن ظننَّا - في مراهقتنا «عفا الله عنا»- خطيب الجمعة عميلاً للاستخبارات الأميركية لكثرة انتقاده الشيوعية، وعشنا نضجنا ونحن نخشى أن نفكر بصوت، وكبرنا فلم نأمن حتى الصمت.
** السكون موت.