د.علي القرني
لنسأل الجميع هنا، صغاراً وكباراً رجالاً ونساءً سعوديين وعرباً: ماذا قرأت في العالم الماضي؟ كم كتابا قرأت؟ وكم كتابا تصفحت؟ طبعا لا أعرف الإجابة بالتحديد، ولكن المؤكد أن معدل القراءة (الورقية تحديدا) في انحدار خطير يهدد الأمن القومي العربي في القراءة. وفي رأي ان مقولة الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت الشهيرة (أنا أفكر إذن أنا موجود) يجب أن تتحول في سياق موضوعنا هناإلى (أنا أقرأ إذن أنا موجود)، فالمسألة هنا مسألة وجودية..
وحتى الآن لا يوجد مشروع وطني للقراءة، رغم أن دولا حولنا لديها مشروعات وطنية في هذا الخصوص، واذا تمعنا في هذه الظاهرة التي يسميها البعض بخجل العزوف عن القراءة، ولكن في الحقيقة هي أكثر من مجرد عزوف إلى تهاوي في الذات العربية، واستبدالها بالأقل، بالأصغر، بالأتفه في مشروعنا العربي للقراءة والمعرفة. فالقراءة هي طريقنا للمعرفة والتقدم، وليسإلى مضامين هامشية وأشكال جديدة من المعارف السطحية التي تهوي بالفكر العربي إلى آفاق من السقوط المروع للإنسان العربي.
معروف أن القراءة في أي مجتمع هي أداة للمعرفة، فهي ربما أهم أدوات الإبستميولوجيا الإنسانية لتوليد المعرفة، واذا ضُربت هذه الأداة فإن باقي الأدوات ستضمحل وستتوارى وستبقى أدوات غير قادرة على مواجهة مضامين المعرفة وتجديدات العلوم وتنوع المصادر العميقة والبحوث الأصيلة. القراءة وحدها هي التي أوصلت أمما إلى القمة، وغيابها هو الذي أدى إلى سقوط أمم أخرى في هاوية التخلف والضمور.
ويجب أن نعرف أن مشروع القراءة ليس مشروعا فرديا بل هو مشروع دولة بل هو مشروع أمة، فإذا لم نبن مثل هذا المشروع فإننا سنبقى حيث نحن، وسنظل كما كنا، دون القفز على الزمن، والسباق نحو التقدم. ومن هنا ندعو كافة المؤسسة التعليمية والثقافية والإعلامية في بلادنا إلى أن تطلق مشروعا وطنيا نحو القراءة وتجديد الذات وتعميق المعرفة. والقراءة الورقية بالتحديد هي ممارسة ابستيمولوجية قديمة منذ أكثر من خمسة قرون مع اختراع المطبعة، وهذه الممارسة هي التي انتجت عصر التنوير في أوروبا، وأسست لعصر النهضة في الدول الأوروبية وأمريكا وكندا وغيرها من الدول المتقدمة حاليا.
«أنا أقرأ إذن أنا موجود» يجب أن يكون هو شعار مثل هذا المشروع الوطني، والذي يمكن أن يكبر إلى أن يصبح شعارا لمشروع قومي عربي في السنوات القادمة. وهناك مشروعات إلكترونية مثل goodreads تحفز على القراءة الورقية والإلكترونية، وهناك شباب صغار مشتركون في هذا المشروع ومنهم من يقرأ أكثر من مائة كتاب سنويا، من مختلف التخصصات والمعارف والعلوم.
وتظل ملامسة الورق هي طقوس جميلة، وفيها مفهوم الامتلاك للكتاب والعودة إليه وإهدائه، وهذا ما نفتقده الآن ومنذ سنوات ماضية بسبب الهجرة الإلكترونية إلى الهامش والخاص والبعيد والغريب. وما نراه أننا بحاجة إلى مشروع وطني كبير تشترك فيه إضافة إلى مؤسسات الثقافة والإعلام الجامعات والمدارس لننمي هواية القراءة وتنمية الذات. وهذا من شأنه أن يعمق فهمنا للأشياء من حولنا، وعن الآخر وعن العالم. وما نحتاجه فعلا هو تأكيد ممارسة القراءة ليس فقط للقراءة المنهجية للكتاب في المدرسة والجامعة، فهذا تحصيل حاصل، ولكن في القراءات المفتوحة في العلوم والمعارف والآداب والشخصيات ومختلف ألوان القراءات الحديثة.