د. فوزية البكر
يمر مجتمعنا اليوم بتحولات اجتماعية وثقافية وسياسية كبيرة لم يكن أحد قادرا على التنبؤ بها منذ سنوات قليلة فقط وفي حين كانت معظم مراكز البحوث الأجنبية (لاحظ ماذا كان ينشر في المجلات الهامة مذ بداية العام 2000) والتي كانت تتساءل عن مستقبل استقرار السعودية في ظل جيل الكبار من أبناء المؤسس ولم يخطر على بال أحد على الإطلاق هذه الموجة العارمة من التجديد التي هبت على المملكة لتبدأ ورشة عمل (غير مصدقة) من الكثيرين حتى الآن من خلال ورشة تحديث هائلة يديرها أبناء الوطن بقيادة أميرنا الشاب محمد بن سلمان وتحمل في عمقها صراعات التحول الوطني حتى 2020 والممهدة لتحقيق رؤية 2030 وذلك لبناء دولة سعودية جديدة حقيقية، يأكل فيها المواطن من عمل يده ويشارك بشكل مباشر في تقاسم الحلوة والمرة.
قد يكون من السهل كتابة هذا الكلام لكنه يظل صعب الهضم ممن هم على الهامش سواء كانوا الفقراء الذين تقل دخولهم عن مستوى معين يمكنهم من مجاراة لعبة الأسعار أو هي الطبقة المتوسطة الناشئة من شباب البلد الذين يشكلون 60 % منه والذين يصارع الكثير منهم للعثور على مقعد دراسي أو الوصول إلى وظيفة مناسبة أو محاولة تملك منزل (وهو الأكثر شحا) أو تلبية طلبات العروس ومقابلة التوقعات الاجتماعية في المظهر والصرف أو حتى التمتع بالحد الأدنى من الخدمات الحكومية الجيدة كالصحة والمدرسة أو قضايا أكثر عمومية كالخدمات العامة في الشوارع أو توفر المواصلات العامة وغير ذلك من مكونات المدن الحديثة.
في إطار ذلك لم تهمل المملكة دورها الإقليمي في المنطقة واضطرت للتدخل في عدد من الجهات في محاولة لترتيب ملفات كبيرة طال تأخيرها حتى تمددت في عروق الوطن العربي وأفرزت ما أفرزت من جماعات إرهابية وفوضوية غزت المنطقة، وهذا كله بثمن مدفوع من المملكة وأبنائها مما يعني مزيدا من الالتزامات المالية والبشرية والإدارية تضاف إلى فاتورة مطبخ صناعة مستقبل السعودية من الداخل عبر برنامج الرؤية الطموح.
كل هذه المتغيرات المذهلة تحمل متغيرات قيمية كبيرة ومتنوعة، فمثلا بدأت قيم وعلاقات تعامل الناس مع الفضاء العام (أي ما يحكمهم من قيم وأساليب سلوك في الأماكن العامة التي اضطرت إلى إعادة ترتيب نفسها بنفسها بغياب جمس الهيئة الذي كان يتولى مراقبة الناس وإرغامهم على السلوك كما يرغب) بترتيب نفسها كما رأينا في كل المناسبات من حضور مباريات أو سلوك عام في المجمعات التجارية والمناسبات الترفيهية.
أيضا بدأت المرأة بالدخول بقوة في هذا الفضاء العام بتواجدها المهني في كل مكان مما يعني عمليا تهاوي جدران الفصل القسري بين الرجال والنساء في مجتمعنا ليعود كما كان قديما وكما هو في كل بلدان العالم: رجل وامرأة يمثلان الأسرة كوحدة أساسية لبناء المجتمع ويتعاملان لا من منطق الندرة والاستغلال بل من منطق التعامل الطبيعي بين الرجال والنساء والمنضبط بشروط دينية ومجتمعية نعرفها جميعا كمسلمين.
دخول الترفيه بأجندة ساخنة يعمل كطاحونة إعادة خلق لمفاهيم هي أيضا طبيعية في كل المجتمعات ونسافر نحن السعوديون لمشاهدتها لكنها تظل توجسا قلقا لجدتها في الداخل مما يعني تغيرات قيمية وسلوكية كبيرة ربما ترهق الكثيرين قبل أن يستقروا على نمط مقبول ومريح اجتماعيا وثقافيا.
رفع الدعم عن بعض السلع الأساسية مع عدم وجود نظام خدمات اجتماعي شامل لكل المواطنين يضمن توفر الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية للكثير من الأسر الفقيرة والمقطوعة والنازحة والمهجرة سيسبب تحديا هائلا لخطط التحديث رغم مبادرة خادم الحرمين الشريفين بالزيادات التي قررت للموظفين في القطاعات العامة لكن يظل الملايين (ممن يعمل حساب المواطن جاهدا لسد بعض حاجاتهم) غير قادرين على الوصول للخدمات الأساسية وهو ما يمثل تحديا حقيقيا علينا دراسته ووضع الحلول (المتنوعة) له، ليس بالضرورة من قبل أجهزة الدولة فقط بل بتسريع خدمات منظمات المجتمع المدني والمنظمات الخيرية العاملة في كل منطقة لتقليل الضغط عن كاهل الحكومة في توفير هذه الخدمات للمحتاجين.
كل هذا سيطرح التحدي أمام مواطنة كل منا في كيفية التعامل مع المتغيرات كفرد أولا ثم لمساعدة الآخرين كل من موقعه (معلم، طبيب، عامل كهرباء، عمل خاص) لفهم تحديات المرحلة والطرق الأنجع للتعامل معها.
الوطن يظل وطنا حتى ولو لم يكن عادلا تماما أو حتى لو ظلم وهجر كما شهدنا في بلدان كثيرة حولنا لكن الفكرة هي في محاولة رؤية الصورة الكبيرة وليس الفردية الصغيرة الخاصة بنا، حيث تقبع مخاوف كل منا. نحن بحاجة للخروج من دائرة الاحتياج الخاص قليلا إلى محاولة فهم الصورة الأكبر وتلمس أساسيات ورشة التحديث الهائلة التي يقوم بها شباب هذا الوطن بقيادة الشاب محمد بن سلمان وهنا فقط: هنا فقط سنكون سعوديين رغم ما قد نعاني خلال السنوات القادمة حتى نصل إلى صورة وطن يرضي الغالبية.