محمد المهنا أبا الخيل
الملاحظ والدارس لتاريخ الأمم يستنتج أن نهوض تلك الأمم حضارياً لم يكن بعامل الصدفة أو الحتمية القدرية أو الأماني والتخرصات، فالأمم تحتاج الأمم للنهوض عدة مؤهلات وعناصر وعوامل وربما ظروف، حيث المؤهلات هي تلك الطاقة والقدرة التي يختزنها المجتمع في صورة معرفة تراكمية نتيجة لحسن نظام التعليم وتوفر مراكز الاكتساب العلمي وتراكم البحوث وتنامي الوعي بالحاجة للإنجاز وكسر جمود العجز والإحباط، والعناصر هي قيام نظام سياسي صلب الكيان والتكوين تحت قيادة حكيمة واعية تضع آليات حكومة الدولة والإدارة والقانون والعدل والتشريع في خير حال، وتبني سلطة قوية مهابة تدافع عن الوطن وتشيع الأمن وتحمي الممتلكات، والعوامل هي القيادة الاجتماعية والثقافة الوطنية التي تولد التعاضد وتكفل التعايش بين مكونات المجتمع، أما الظروف فهي تلك الحالات التي يتوافر فيها للأمة فرص في الاستثمار الاقتصادي للموارد والإمكانات الجغرافية والجيوسياسية.
المملكة العربية السعودية اليوم وهي تلج هذا العام الميلادي (2018)، وبعد مضي (3) سنوات من تولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز (أعزه الله) مقاليد الحكم، هذه الثلاث سنوات هي بمثابة جهد هائل من التخطيط والإنجاز والتحقيق التكويني يعادل (30) سنة في عملية الإعداد للنهوض الحضاري والتاريخي للأمة السعودية، فالمجتمع السعودي اليوم يخرج من شرنقة التأهيل التي دامت عقود من البناء المعرفي والعلمي والتحصيل وأصبح مجتمعاً قادراً على الاستيعاب السريع للمتغيرات المعرفية والتقنية واكتسابها والإبداع فيها، وأصبح مجتمعاً قادراً على صناعة المعرفة، ففي كل عام تتوسع الجامعات السعودية في تكوين مراكز البحث وتنتج مزيداً من الحلول للمعضلات الحضارية والتصورات الإعدادية لمزيد من التحولات الاجتماعية الكفيلة بصنع إمكانات وفرص البناء المعرفي المتجدد، فقد بلغ التراكم المعرفي السعودي الحدود التي تؤهله للانطلاقة الحضارية.
في جانب العناصر المؤدية للنهوض الحضاري أثبتت المملكة في هذا العصر (السلماني) أنها النظام السياسي الأوثق والأشد بناءً وترابطاً في مواجهة التحديات الخطيرة والمؤامرات والدسائس التي حاكها الأعداء للنيل من كيان الدولة وتماسكها فقد استطاعت أن تحشد مؤتمراً لم يسبق له نظير جمع معظم الدول الإسلامية والولايات المتحدة في وقت وجيز، واستطاعت أن تخرج من ذلك المؤتمر بموقف دولي أيدته معظم دول العالم يجعلها صانع السلام وقائد الحرب على الإرهاب العالمي، ولم يكن ذلك وحسب، بل قادة حملة عسكرية لصراع الظلم والقهر الذي ألمّ بالشعب اليمني جنوباً والشعب السوري شمالاً تحركه قوى الظلال والبغي.
خلال تلك السنين الثلاث وفي تجربة غير مسبوقة وبتفويض من خادم الحرمين الشريفين قاد الأمير الشاب ولي العهد الموفق محمد بن سلمان حملة الإعداد لعناصر البناء النهضوي فأطلق مشروع (التحول الوطني) لتهيئة الأجهزة الحكومية للنهوض بقدراتها البشرية التنظيمية والتقنية والاستخدام الأمثل للموارد، ثم أتبع ذلك بحملة موفقة للقضاء على الفساد كان لها صدى هائل في أطراف الأرض، لذا تمتلك المملكة اليوم أحد أهم مقومات النهوض الحضاري وهو عنصر الدولة القوية العادلة والقيادة الحكيمة الواعية.
وفي جانب العوامل، أثبت المجتمع السعودي برمته أنه ومهما تنوّعت مشاربه ومذاهبه وتكويناته العرقية وانتماءاته القبلية فهو شعب متماسك متعاضد متسامح ومتعايش يتمتع بثقافة اجتماعية بناءة, شعب استطاع أن يفوّت على كل حاقد أو حاسد أو مغرض فرصة ضرب إسفين تفرقة أو تقويض لأي من القيم السامية التي توحد المجتمع السعودي تحت انتمائه (السعودي)، فالسعودي بقدر ما يفتخر بهذا الانتماء يرى أن عبارة السعودية تحمل مضامين له أكثر من كونها اسماً لدولة، حيث تعني في كلمة واحدة (العزة والشموخ والرخاء والسيادة), وليس هناك كلمة في أي لغة تجتمع بها هذه المضامين التي كل منها يمثل قيمة سامية تعتمرها قيادات المجتمع الثقافية.
منذ عهد الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- والمملكة تحفها الظروف السياسية والاقتصادية من كل جانب بتحدياتها وفرصها فاستطاعت المملكة وبفضل حنكة قيادتها وخلال الحربين العالميتين أن تحافظ على كيانها مصاناً وثابتاً دون أن تخسر علاقاتها وتعاملاتها العالمية، وحتى اليوم والمملكة واحة أمن وسلام ورخاء في وسط حافل بالقلاقل والمحن ومنذ تكوينها والمملكة تسارع الخطى في الاستفادة من كل إمكاناتها ومواردها في تكوين اقتصاد قادر على تحقيق تطلعات شعبها ودعم كينونتها العالمية في الوسط الإسلامي والعالمي، حتى باتت المملكة أحد أهم (20) اقتصادًا في العالم، وهي اليوم مع وعد للانطلاق الحضاري الجديد.
الانطلاقة الحضارية التي بات العد التنازلي لانطلاقها هي انطلاقة إشعاع ثقافي جديد ونمو اقتصادي غير مسبوق وتولي دور سياسي عالمي يليق بمجتمع هم أحفاد من نشر الإسلام في أصقاع الدنيا برسالة حضارية مجيدة، ذلك الدين الذي وجد العالم به في حين بزوغه تحرراً من العبودية للكرامة ومن الجهل للمعرفة ومن الفقر للرخاء، واليوم نحن على أعتاب إعادة نشر تلك القيم من جديد.