د. جاسر الحربش
من الصعب علي مسح ذلك الموقف من الذاكرة ، فقد ترك عندي انطباعاً آخر عن الأتراك يختلف عما كان عندي قبله. كنت في اسطنبول قبل حوالي ثلاثين سنة وزرت قصر دولمه بهجه المركز الإداري السابق للإمبراطورية العثمانية. انتظمت مع سياح أكثرهم غربيون وقدم الدليل التركي الشاب نفسه لنا بالإنجليزية قائلاً: مرحبا ً بكم اسمي تجنكيز (هكذا نطقها بدمج التاء مع الجيم) ونسيت اسمه العائلي . بعد نهاية الشرح سألت الشاب هل اسمك فعلا تجنكيز، فقال نعم هذا اسمي. سألته هل أنت من أحفاد جنكيز خان القائد المغولي، فقال نعم أنا من أحفاده وأفتخر بذلك. قلت لكنه كان يخرب كل ما يمر به من مدن ومن ضمنها بغداد. فجأة احمر وجه الشاب التركي وطلب مني الانصراف قائلا ً أنتم خونة أيها العرب، اذهب وإلا طلبت من الشرطي الحارس اقتيادك ، فانصرفت طلبا ً للسلامة.
علاقة العرب بالأتراك يختلط فيها التعاطف الديني والمذهبي بضبابية الحقائق وتلوثها بما يروجه الغرب للتشويه المقصود من ناحية مع ما يروجه أيضا ً أنصار عودة الخلافة الإسلامية الكبرى من ناحية أخرى، لكن الحقائق تقع في مكان آخر وموجودة في التاريخ الذي كتبه مؤرخون عرب لمن يود الاطلاع.
عندما احتل الأتراك بلاد الشام والعراق ومصر والشمال العربي الإفريقي واليمن وسواحل الجزيرة العربية ماذا فعلوا هناك؟، بمعنى ماذا أخذوا من السكان وماذا قدموه لهم؟. من ضمن الحقائق المؤكدة أن العثمانيين كانوا ينقلون الصناع والمهنيين المهرة والمفكرين والخطاطين الموهوبين والخطباء المفوهين من الحواضر العربية إلى الأستانه ، ولم يتركوا للبلاد العربية حتى المتميزين من علماء الفقه والحديث . كانت أحوال العرب الحضارية بعد طرد الصليبيين من بلاد الشام وشمال مصر بدأت تستقر وتزدهر، ثم جاءت الجيوش العثمانية فسلخت الدسم من العظم واللحم وأرسلته إلى تركيا. النتيجة كانت التصحر المعرفي والمهني علاوة على التصحر الجغرافي ، لأن الترك لم يحدثوا ثورة زراعية في مستعمراتهم ناهيك عن صناعية أو فكرية.
ما نراه باقيا ً اليوم من خطوط السكك الحديد والقلاع والمخازن التركية كانت من صنع المهندسين الألمان لخدمة الجيش العثماني، أو بقايا لما بناه حاكم مصر الألباني محمد علي أو حافظت عليه الأسر العربية العريقة في دمشق وبغداد.
الطامة الأخرى كانت تمنع السلطة العثمانية عن التحاق تركيا نفسها بالثورة الفكرية والصناعية التي عمت أوروبا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر ووصلت إلى المستعمرات الأوروبية في أمريكا الشمالية والهند. لأنها كسلطة قمعية عنصرية كانت تخاف من الانفتاح الفكري والصناعي على الإمبراطورية العثمانية . هذا الحرمان من الالتحاق بالثورة الصناعية والفكرية شمل بالطبع المستعمرات التركية في البلاد العربية لنفس الأسباب . ذلك الغباء الفكري والسياسي نتج عنه سقوط الدولة العثمانية واستعمار مستعمراتها من قبل الإنجليز والفرنسيين والأسبان.
لكن ماذا عن علاقة العربي بتركيا في الوقت الحاضر؟. الطرفان أصبحا في أمس الحاجة للتعاون المتبادل لصد نفس الأخطار، ولكن الإشكال يكمن في أن العقلية الطورانية المتعالية على العرب بدأت تستيقظ من جديد. ما عدا المرحوم عدنان مندريس كل من تعاقب على حكم تركيا جنكيز آخر.