عبدالوهاب الفايز
من الأساسيات التي نتوقعها في عمل القطاع العام هي ضرورة الاجتماع الأسبوعي للقيادات في الوزارات والهيئات الحكومية، سواء في المراكز الرئيسة أو في الإدارات العامة والفروع. في هذا الاجتماع الأسبوعي يفترض أن تكون على رأس الموضوعات المدرجة للنقاش طرح (حالة للدراسة) يتم استخلاصها من ظروف العمل التشغيلية لمعرفة: أين القصور أو الخلل في الأنظمة والإجراءات المتبعة، بالذات التي لها مساس مباشر في حياة الناس، وقد تكون مصدر متاعبهم وبالتالي تذمرهم.
في أداء القطاع العام سوف يجد القياديون والمديرون العديد من الحالات التي تستحق الوقوف عندها، وهناك حالات تشتهر بين الناس، وأخرى كثيرة تقع ولكن لا يعرف عنها إلا المتسببون فيها أو المتأثرون في تداعياتها. المسؤولية هنا تقع على القيادات لجمع هذه الحالات وعدم إهمالها، أو (تمريرها للمستقبل)، لأن التبعات ستكون أسوأ وأكثر تكلفة ومعاناة للناس، وأغلب التحديات التي نواجهها الآن هي ثمرة لبيئة تمرير المشكلات للمستقبل.
لماذا؟ لأن حالات الإخفاق الإداري التي لا نعرفها في حينها يتم نسيانها نتيجة لضعف آليات الإدارة والمتابعة، أو لعدم استشعار المسؤولية. خوفًا من هذا القصور واجب المؤسسات السيادية التشريعية والتنظيمية (الشورى، مجلس الوزراء) التوجيه بضرورة تطوير الآليات الحكومية الإلزامية عبر إدخال آليات جديدة لرفع الجودة مثل إدخال الحالة الدراسية، مع بناء (سجل وطني للحالات الدراسية). هذا ضروري لأجل تعزيز أداء القطاع العام، وهذا يحقق عدة مكتسبات وطنية. منها:
أولاً: تعزيز الحوكمة لعمل القطاع العام. ثانياً: تعزيز الإحساس بالمسؤولية لدى القيادات والموظفين لتأسيس روح العمل الجماعي (حتى نخرج من ذهنية هذا ما هو شغلي!). ثالثًا: تعزيز النزعة الأخلاقية للنزاهة ومحاربة الفساد. رابعًا: تطوير ذهنية التعلم وتكريس المنهج العلمي في التفكير ليكون ضمن أدبيات القطاع العام وجزء رئيس من ثقافة المنظمة، حتى تتأسس روح المبادرة ليكون كل موظف جزءًا من الحل للمشكلات والتحديات التي تواجه بيئة العمل.
هذه المبادئ المكتسبة تؤسس روح المنافسة والتعاون الإيجابي في بيئة العمل، وتقلل من حدة الصراع والتوتر والخوف من المستقبل، وهكذا تنمو البيئة الحاضنة للمبادرة والإبداع.
المشكلات التي يتم توثيقها وتشخيصها بذهنية الحالة الدراسية، وليس بذهنية تتبع الأخطاء والزلات والبحث عن الضحية، تكون حلولها أسهل وأيسر ويتعاون الجميع في المنظمة لحلها، لأن التشخيص يتم بتجرد ومهنية.
هذه البيئة الإيجابية المبادرة سوف تدفع الذين يسهمون في المشكلة أو يتسببون بها إلى الإبلاغ عنها وعدم التستر عليها أو تجاهلها، فتبني وتشجيع حضورهم ومساهمتهم حين بناء الحالة الدراسية هو المعطى الأسمى للبيئة الإدارية المتسامحة التي تشجع على المبادرة واجتراح الحلول.. وبالتالي إثراء عملية صناعة القرار.
هل القطاع العام يعمل بهذه الذهنية، وهل هناك اجتماعات فعالة وتتسم بكفاءة التحضير وبناء جدول الأعمال، وأيضًا تحظى بكفاءة الإدارة؟
أجزم أن هناك بعض القطاعات التي لديها الحد الأدنى الضروري لإدارة بيئة العمل بإيجابية وفعالية، وهناك بعض القياديين الذين لديهم الإدراك لأهمية الاجتماعات الدورية المنتجة لروح العمل الجماعي، ولديهم الصبر والمتابعة لتهيئة الظروف الملائمة التي تضمن إيجاد مخرجات إيجابية للاجتماعات الدورية، وهذه المبادرات والاجتهادات الفردية من الضروري أن تكون حالة شائعة لتصبح النموذج والقدوة.
إذًا نحن نتفق على ضرورة تبني بناء الحالة الدراسية لتكون أحد الثوابت الإدارية في أداء القطاع العام، السؤال: من يضمن ذلك بحيث يكون ممارسة مستدامة؟ هنا نقول: ربما تتم وتدرج هذه الحاجة ضمن الأمور التي (يراقبها ويتتبعها) ديوان المراقبة العامة وهيئة مكافحة الفساد. ويتم التأكَّد منها عبر إرسال صورة من تقارير الحالات التي تناقش.
هنا أيضًا أرى أهمية معهد الإدارة العامة، فعليه دور إعداد صيغة مرشدة لدليل بناء الحالات الدراسية لكي يحدد: آلية جمعها، وتعريفها، وكيفية مناقشتها، والمعلومات الضرورية التي يجب توفيرها، ونوعية الأشخاص الذين يتولون تقصيها، وكيفية تدوينها، ودور القيادات للتأكَّد من الجودة والضبط الأكاديمي. هذا هو المدخل العلمي لتأسيس مبدأ الحالة الدراسية، وربما يعقد المعهد منتدى سنوي لمناقشة أفضل الحالات الدراسية وأضعف الحالات بعد تكليف باحثين لدراستها وتحليلها. هكذا نطور الإدارة ونؤسس للموروث المعرفي في ممارسات الإدارة الحكومية.
جمع هذه الحالات سوف يساعد على بناء القطاع العام ورفع كفاءته ويقلل تكلفته، والأهم: حتى لا يقف أمام تطور بلادنا!
إن بناء القطاع العام القوي المتمكن مهم لاستقرارنا الاجتماعي والسياسي، والدول الإسكندنافية تقدم النموذج المثالي الحي على حيوية الدولة وحيوية القطاع العام، وفي التجربة الإسكندنافية لم ياتوا بالمستحيل، الإنجازات العظيمة تأتي دائمًا من أبسط الأفكار والمبادرات، وطبعًا البناء الخلاق للأشياء والمؤسسات متعب ولا يخلو من المرارة، إذ يحتاج إلى العمل الجاد المضني المتواصل، ولكن حلاوة الإنجازات تأتي من المتعة الأسمى.. متعة عمارة الأرض!