د. حسن بن فهد الهويمل
واقعُ أمتنا مُذِلٌ لا يُطاق. ومن سَرّهُ وضْعٌ كومْضَةِ البرق، ساءته أوضَاعٌ أُخَرُ، كالجبال الرواسي.
ما يعمق المآسي تلاحمُ [الكلمة الخبيثة] عَبْر قنوات الضرار، ومواقع الأشرار مع الفعل المُشِيْن: -
{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا}.
يشطح الإنسان السويُّ، وغَيرُ السويّ بفعله، ثم تكون الأَوْبَةُ العَجْلى، أو المُتَرَيِّثة. مُخْلِيةً السوح من المآسي، في صحوة من صحوات الضمير.
ولكن [الكلمة الجارحة] حين تند عن سواء السبيل، لا يكون لجراحها الدامية التئام.
الشفرة المُحَدَّة، تجرح الجسم. والكلمة، و- إن كَلَّت - تجرح القلوب، وتفري المشاعر. وجرحُ الحَوَادِّ حِسِّيٌ مقدور على التئامه، أما جراح الكلمات فَمَعنوي ليس له مباضع: -
جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا الْتِئامُ
ولا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ اللِّسانُ
أُنْهكت أمتنا بأسلحة الدمار شراءً من قوت المقوين، وقتلاً للعزَّل المعتزلين. وأهينت كرَامتُها بكلمة العُهْر، والفجور، وقول الزور.
صناعة [الكلمة] النافذة المفرقة للجمع، والمشتتة للشمل، أصبحت كصناعة السلاح القاتل. لا فرق بين قتل الأجساد، وقتل الكرامات.
لقد هيئت للكلمة منافذُ تحز إلى العظم، مثلما هُيِّئ لـ[الصواريخ] منصات، تطال القاصي، والداني.
وما لم تُؤْطَر [الكلمة] على الصدق، كما يُؤْطَر السفهاء على الحق أطراً، وما لم تكتب شفاه المرتزقة بأسيار، فإن الأمة ستظل في ردغة الهوان، والذلة، والمسكنة.
تناحر السفهاء من كل فئة نَشْرٌ للغسيل، وكَشْفٌ للسوءات، بِها خُوِّنَ المؤتمن، وكذِّبَ الصادق، وفضحت الأمة. والإنهاك، والإهانة يقترفهما الأقربون: -
[وظلمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً
على المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّدِ]
علماء متبحرون، ومفكرون متعمقون، وإعلاميون مفوهون، يجتالون أفهام أمتهم كاجتيال الشياطين للأناسي.
باعوا قدراتهم، بلعاعات، يُبَذِّرونها تبذيراً في سوح اللهو، ومواخير الفجور، تزول لذتها، ويبقى علقهما على صفحات التاريخ، ويوم يقوم الأشهاد.
هذه الأمة المستضعفة بحاجة إلى [عَوَاصِفَ أُخَر] فيها الحزم، والعزم، عسى أن تنهض من كبواتها، وتفيق من سكراتها، وتتلمس طريق الخلاص، بعد أن طال عليها أمَدُ التيه، واشتدت عليها الكربات، وتداعت عليها أيدي الأمم كما في [حديث التداعي] الذي روي في عدد من كتب المسانيد، والسنن، والصحاح.
في هذا الحديث يَتَجَلَّى [الإعجاز النبوي] ويتجسد ضعفُ الأمة، وتبين أسبابه، ويتضح تكالب المستبدين على أمة الإسلام، منذ [دار الندوة] وحتى [وعد بلفور] و[سايكس بيكو] وسائر [اللعب الكبرى].
تلك كلها حقائق بادية للعيان. ونص الحديث: -
[تُوشِكُ الأمَمْ أن تَدَاعى عَلَيكم كما تَدَاعَى الأَكلَةُ إلى قَصْعَتِها.
فقال قائل: وَمِنْ قِلَّةٍ نحن يَوْمَئِذٍ؟ قال: بَلْ أنتم يَوْمَئِذٍ كثير، ولكنكم غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْل، ولينزعَنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن».
فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟
قال: - حب الدنيا، وكراهية الموت].
هذا الحديث يترجمه الواقع المعاش. فهناك [تداعٍ]. وهناك [كثرة] فارغة من مقومات الحياة السوية. وهناك [غُثائية]، وإغثاء. وهناك [وَهَنٌ]، و[انعدامُ مَهَابَةٍ].
إنه إخبارٌ مِمَّن لا ينطق عن الهوى.
[العصف] المنشود لا يكون اعتباطاً، ولا اهتياجاً، ولا تسلطاً ينهض به عَلٌّ ألف شَرّه دون خيره. تحت مسمى الثورة. أو الانقلاب. أو الانتفاضة.
[العصف] إرادة أمة، تَمْنَح ثِقَتَها للكفاءات من أبنائها، مِمَّن تَجَلَّى حُبُّهم، وصِدقُهم، وحسنُ نواياهم، وإيثارهم، ونزاهتهم، وقوتهم في الحق، وحسن تقديرهم، ورَشَدَ تدبيرهم.
وليس بمستحيل أن تنشق صَحْراءُ أمتنا عن أبطال يُهَيِّئ الله لهم مقومات الإنقاذ لأمة اشتعلت مشاكلها، ووهن عظمها، وتكسرت نِصال المصائب على النصال، فوق جسدها المثخن بالجراح الفواغر.
- فأين نحن من [الملك عبد العزيز] الذي عاد من منفاه بلا عدة، ولا عتاد، وأنشأ دولة عربية، إسلامية مكتملة الأهلية، والوجود الكريم. بعدما كانت شراذم قبلية، وإقليمية تصطرع على الموارد، والمراعي؟
- وأين نحن من زعماء الإصلاح الذين تقصاهم [أحمد أمين] في كتابه القيم [زعماء الإصلاح]؟
أمتنا ليست عقيمة، إنها ولود، ودود.
والبائسون المحبطون لم يقرؤوا تاريخها، وما اعتراها من جزر، ومد، وصعود، وهبوط.
واقع الأمة حتماً سينشق عن منقذين يَصْلُحون إذا فسد الناس، أو يُصْلِحِون ما أفسد الناس.
لا يمكن أن يظل [السلاح] يزهق أرواح الأبرياء، ويهلك الحرث، ويهدم الأبنية التحتية، والفوقية.
ولا يمكن أن تظل [الكلمة] الخبيثة تلوب الفضاء، وتلوث الأنحاء لتفرق بين المرء وزوجه.
[العاصفة] المرتقبة عودة إلى الحق. وصدق مع الله. والتقاء صادق حول الموائد المستديرة، لتدارُس الأمر، وتدارك الأمة قبل أن تكون أثراً بعد عين.
صلاح الأمة يكمن فيها متمثلاً بقيم دينها، وشيم قوميتها، يتلبس بها الصالح من أبنائها للخلوص من الأثرة، والتسلط، والغفلة، وقبول اللعب القذرة. والتخلص من الطائفية، والقبلية، والإقليمية.
[العاصفة] في كبت الكلمة الكاذبة، ونزع الرصاصة الغادرة. وساعتها تكون [العاصفة] التي تَرُدّ الكرامة، وتعيد الهيبة، وتؤكد أن بني العم فيهم رماح.
[العاصفة] المرتقبة ليست من المعجزات، إنها إرادة عاقلة، حليمة. حكيمة يذعن لها الجميع. ويثق بها الجميع. ويساندها الجميع. لحمتها، وسداها [العروبة، والإسلام] بكل مذاهبه، واتجاهاته، وتسامحه، ورفقه.
الخلوص من الهلكة ليس من المستحيلات، إنه مراجعة واعية لواقع أليم يُغَلَّبُ فيه العقل على العواطف، والسَّلامُ على الخصام: - {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
[العاصفة] التي نريد سِلمية، توعوية، دعوية، تُغَلِّبُ مصلحة الأمة، وتحترم كياناتها، ومكوناتها، لا تصادر حقاً، ولا تحول دون سيادة.
لا شيء مستحيل مع الإرادة القوية، والعزم، والحزم الذي خبرناه في قادتنا.
[العاصفة] المرتقبة لا مكان فيها لمن باع قوميته للمجوس، ولا مكان فيها لمن خان أمته بالتآمر عليها.
إنها في عودة الإسلام المختطف من المتشددين، والحزبيين، والطائفيين: - {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
وفي صياغة موقف موحد تجاه العدو المجوسي. العرب، بل الخليجيون غير متفقين مثلما كانوا في حرب الخليج الأولى. فأولى لهم أن يفكروا بعاصفة تعيد لحمتهم، وترهب عدوهم.