د. محمد عبدالله العوين
بدل أن يتناوب الخائفون على الهوية العربية والإسلامية على تبادل الشتائم إلى الحضارات والثقافات الأخرى من منطق الغازي المختطِف والمغزو المختطَف عليهم أن يصرفوا جهودهم في صب جام غضبهم وكراهيتهم على أسباب تعطيل محفزات النهضة في الأمة العربية والإسلامية؛ لكي تنافس وتتفوق وتتسيد وتقف في صف المنتج المعطي الباذل لا المستعطي المستجدي المتلهف لنتاج من يصبون عليهم سخطهم وكراهيتهم.
حين يعي التاجر الذكي كيف يسوق بضاعته ومتى يتمدد نشاطه إلى آفاق جديدة وأين وكيف ومع من يتعامل وبأية أدوات ووسائل وقبل ذلك وبعده يعلم بيقين حجم رصيده ومقدار سيولته؛ فإنه قد يوفق إلى الصعود السريع في سلم التفوق والإنجاز.
على خلاف ذلك الذي يمارس التجارة في الأسواق المتصارعة المتنافسة برصيد مالي لا يؤلمه كثيرا لخوض التنافس على شراء أو استيراد أو تصنيع الأجمل والأرقى مما هو مرغوب من المستهلكين، ثم هو على ضعفه وعجزه المالي لا يملك أدوات ممتازة في التواصل مع الناجحين، بل ربما يسخر شيئًا مما يملك من أدوات التواصل للإقذاع في تحقير المنافسين من التجار والصناع وتشويه بضائعهم وكشف أوجه الخلل في صناعتهم والتخويف من ضررها وتضخيم خطر ما يصدرونه على الأمة من مفاسد.
إن الصراع الآن بين الحضارات المتغلبة المتسيدة على العالم بتفوقها العلمي والاقتصادي والحضارات المسترخية النائمة التي تقف -مع الأسف- في صف المستهلك منتظر العطايا والمنتجات الجاهزة، وهو صراع لا يختلف كثيرًا عن تلك المماحكة بين الصنفين المذكورين من التجار آنفا؛ الذكي والخامل، القوي والضعيف، النشط والكسول، العالم بوجوه قوته واللاهي عن التفكير في مأساة ضعفه.
هي دورة الحضارات التي عشناها وعاشتها معنا الأمم الأخرى، وكان مما يحسن بمن يتشدد في مخاوفه من تفوق الآخر المختلف مراجعة التاريخ العربي والإسلامي في دوراته الزاهية المتفوقة؛ ففي تلك الفترات الرائعة التي عاشها أسلافنا في دمشق أو بغداد أو قرطبة لم نجد في موروثنا الأدبي ما يصور صراع حضارات؛ بل لعل ذلك كان موجودا في التراث الأوربي في عهود سيادة ظلام الكنيسة والجهل والتخلف التي عاشتها أوروبا في القرون الوسطى وما قبلها، وهي تلك المرحلة التاريخية الفاصلة في مجد الحضارة العربية الإسلامية التي كان الأوربيون على اختلاف بلدانهم ولغاتهم يفدون إلى الأندلس يكتسبون اللغة العربية والمعارف المختلفة وعلوم الطب والصناعة والعمران والزراعة والحرف المختلفة، وتأثروا بالزي العربي وتقاليد المائدة العربية، ونقلوا شيئا غير قليل من ذلك إلى بلدانهم ضمن ما ترجموا من أدب وفن وفلسفة ابن رشد وابن باجة وابن حزم وابن زيدون وزرياب وغيرهم.
وبدلا من أن يلح بعض الخائفين القلقين على الموقف المعادي بالمطلق من الثقافات والحضارات المتسيدة ويداخله وجل مرعب من ذوبان الخصوصية المتوهمة عليه أن يتأمل في حكمة تبادل أدوار السيادة بامتلاك أسباب التفوق.
ودون أن تتملك الأمة أسباب التفوق التي نهض بها غيرها سنظل ندير ردح الشتائم للغير والعيش في نطاق الخوف من الذوبان والفناء في الحضارات المتسيدة.